ذو عهد في عهده بسبب قتل كافر. ومن المعلوم أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل به مؤمن في الحديث المذكور هو الكافر الذي لا عهد له، وهذا لا خلاف فيه لأحد: أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي، ولا الكافر الذي له عهد يقتل به أيضا، فحاصل معنى حديث أبي جحيفة: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر.
فإن قالوا: كل واحد من الحديثين كلام مستقل مفيد فيعمل به، فما الحاجة إلى جعلهما واحدا حتى يحتاج إلى هذا التأويل؟ قلنا: قد ذكر أن أصل الحديث واحد فتقطيعه لا يزيل المعنى الأصلي، ولئن سلمنا أن أصله ليس بواحد، وأن كل واحد حديث برأسه ولكن الواجب حملهما على أنهما وردا معا، وذلك لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في وقتين، مرة من غير ذكر ذي العهد، ومرة مع ذكر ذي العهد، وأيضا إن أصل هذا كان في خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده) يعني، والله أعلم: الكافر الذي قتله في الجاهلية. وكان ذلك تفسير لقوله: (كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي). لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث واحد، وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة، وأنه إنما كان قبل، بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، عهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (لا يقتل مؤمن بكافر) منصرفا إلى الكفار المعاهدين، إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه، ويدل عليه قوله: (ولا ذو عهد في عهده)، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدد، ولذلك قال: (ولا ذو عهد في عهده)، كما قال تعالى: * (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) * (التوبة: 4) وقال: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * (التوبة: 2) وكان المشركون حينئذ على ضربين. أحدهما: أهل الحرب ومن لا عهد بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر: أهل المدة. ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين، ولم يدخل فيه من لم يكن على أحد هذين الوصفين، وهذا هو التحقيق في هذا المقام.
وقال بعض الحنفية: وقع الإجماع على أن المسلم تقطع يده إذا سرق من مال الذمي، فكذا يقتل إذا قتله، وإن قوله: (ولا ذو عهد في عهده) من باب عطف الخاص على العام، وأنه يقتضي تخصيص العام لأن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له والأعلى وهو الذمي، فلا يبقى أحد يقتل به المعاهد إلا الحربي، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي، تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه.
واعترضوا بوجوه. الأول: أن الواو ليست للعطف بل للاستئناف، وما بعد ذلك جملة مستأنفة فلا حاجة إلى الإضمار فإنه خلاف الأصل، فلا يقدر فيه: بكافر. الثاني: سلمنا أنه من باب عطف المفرد، والتقدير: بكافر، لكن المشاركة بواو العطف وقعت في أصل النفي لا في جميع الوجوه، كما إذا قال القائل: مررت بزيد منطلقا وعمرو. قال الشهاب القرافي: المنقول عن أهل اللغة والنحو أن ذلك لا يقتضي أنه مر بالمعطوف منطلقا، بل الاشتراك في مطلق المرور. الثالث: أن المعنى لا يقتل ذو عهد في عهده خاصة إزالة لتوهم مشابهة الذمي، فإنه لا يقتل ولا ولده الذي لم يعاهد، لأن الذمة تنعقد له ولأولاده وهلم جرا، وأما الجواب عن القياس المذكور: فإنه قياس في مقابلة النص، وهو قوله: (ولا يقتل مسلم بكافر) فلا أثر له.
وأجيب عن الأول: بأن الأصل في الواو العطف، ودعوى الاستئناف يحتاج إلى بيان. وعن الثاني: بأن ما ذكرتم في عطف المفرد، وهذا عطف الجملة على الجملة، وكذلك المعطوف في المثال الذي ذكره القرافي مفرد. وعن الثالث: بأنه إنما يصح إذا كانت الواو للاستئناف، وقد قلنا: إنه يحتاج إلى البيان، وأيضا فمعلوم أن ذا العهد يحظر قتله ما دام في عهده، فلو حملنا قوله: (ولا ذو عهد في عهده)، على أن لا يقتل ذو عهد في عهده لأخلينا اللفظ عن الفائدة، وحكم كلام النبي، عليه الصلاة والسلام، حمله على مقتضاه في الفائدة، ولا يجوز إلغاؤه ولا إسقاط حكمه، والقياس إنما يكون في مقابلة النص إذا كان المعنى على ما ذكرتم، وهو غير صحيح، وعلى ما ذكرنا يكون القياس في موافقة النص فافهم. وأما قول البيضاوي: إنه منقطع، فإنه لا يضر عندنا، لأن المرسل حجة عندنا. وجزمه بأنه خطأ غير صحيح لأن القاتل يحتمل أن يكون اثنين قتل أحدهما وعاش الآخر بعد النبي، عليه الصلاة والسلام. وقوله: إنه منسوخ وقد كان قبل الفتح، غير صحيح، لما ذكرنا أن أصل الحديث كان في خطبته، عليه الصلاة والسلام، من فتح مكة. فافهم.