عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢٧٩
قوله: (سباب المسلم) كلام إضافي مبتدأ، وقوله: (فسوق) خبره. فان قلت: هذا إضافة إلى الفاعل أو المفعول. قلت: بل إضافة إلى المفعول، قوله: وقتاله، كذلك اضافته إلى المفعول، وارتفاعه بالابتداء، وخبره: (كفر).
بيان المعاني: قوله: (عن المرجئة). معناه سألت أبا وائل عن الطائفة المرجئة: هل هم مصيبون في مقالتهم مخطئون؟ ولهذا قال أبو وائل في جوابه لزبيد بن الحارث: حدثني عبد الله أن النبي، عليه الصلاة والسلام، قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) يعني: أنهم مخطئون، لأنهم لا يجعلون سباب المسلم فسوقا، ولا قتاله كفرا في حق المسلم، ولا يفسقون مرتكبي الذنوب، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخلاف ما ذهبوا إليه، فدل ذلك على كونهم على خطأ وضلال، وبهذا التقدير الذي قدرناه يطابق جواب أبا وائل سؤال زبيد، وقال بعضهم: في التقدير أي: عن مقالة المرجئة، وهذا لا يصح لأن على هذا التقدير لا يطابق الجواب السؤال. فإن قلت: في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له، فدل هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم. قلت: لا نسلم هذه الدلالة، بل الذي يدل على أنه وقف على مقالتهم، حتى سأل أبا وائل: هل هي صحيحة أو باطلة؟ فإن قلت: هذا الحديث، وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذي يكفرون بالمعاصي: قلت: لا نسلم ذلك، لأنه لم يرد بقوله: (وقتاله كفر)، حقيقة الكفر التي هي خروج عن الملة، بل إنما أطلق عليه: الكفر، مبالغة في التحذير، والإجماع من أهل السنة منعقد على أن المؤمن لا يكفر بالقتال، ولا يفعل معصية أخرى، وقال ابن بطال: ليس المراد بالكفر الخروج عن الملة بل كفران حقوق المسلمين لأن الله تعالى جعلهم أخوة، وأمر بالإصلاح بينهم، ونهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن التقاطع والمقاتلة، فأخبر أن من فعل ذلك فقد كفر حق أخيه المسلم، ويقال: أطلق عليه الكفر لشبهه به، لأن قتال المسلم من شأن الكافر، ويقال: المراد به الكفر اللغوي، وهو الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كأنه كشف عنه هذا الستر، وقال الكرماني: المراد أنه يؤول إلى الكفر لشؤمه، أو أنه كفعل الكفارة وقال الخطابي: المراد به الكفر بالله تعالى، فإن ذلك في حق من فعله مستحلا بلا موجب ولا تأويل، أما المؤول فلا يكفر ولا يفسق بذلك، كالبغاة الخارجين على الإمام بالتأويل، وقال بعضهم: فيما قاله الكرماني بعد، وما قاله الخطابي أبعد منه. ثم قال: لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحلا لعن المسلم بغير تأويل كفر أيضا. قلت: إذا كان اللفظ محتملا لتأويلات كثيرة، هل يلزم منه أن يكون جميعها مطابقا للترجمة؟ فمن ادعى هذه الملازمة فعليه البيان، فإذا وافق أحد التأويلات للترجمة، فإنه يكفي للتطابق. وقوله: ولو كان مرادا لم يحصل التفريق... الخ، غير مسلم لأنه تخصيص الشق الثاني بالتأويل لكونه مشكلا بحسب الظاهر، والشق الأول لا يحتاج إلى التأويل لكون ظاهره غير مشكل. فإن قلت: جاء في رواية مسلم: (لعن المسلم كقتله)، قلت: التشبيه لا عموم له، ووجه التشبيه هو حصول الأذى بوجهين: أحدهما: في العرض، والآخر: في النفس. فإن قلت: السباب والقتال كلاهما على السواء في أن فاعلهما يفسق ولا يكفر، فلم قال في الأول فسوق، وفي الثاني كفر؟ قلنا: لأن الثاني أغلظ، أو لأنه بأخلاق الكفار أشبه.
2 (أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس قال أخبرني عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعتبر بليلة القدر وفتلاحى رجلان من المسلمين فقال إني خرجت لاخبر كم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والخمس.) هذا الحديث للترجمة الأولى ووجه تطابقه إياها من حيث أن فيه ذم التلاحى وأن صاحبه ناقص لأنه يشتغل ع كثير من الخير بسببه سيما إذا كان في المسجد وعنه جهر الصوت بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم بل ربما ينجر إلى بطلان العمل وهو لا يشعر قال تعالى (ولا تجهر واله بالقول كحهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وقال بعضهم بعد أن أخذ هذا الكلام من الكرماني ومن هنا يتضح مناسبة الحديث للترجمة ومطابقتها وقد خفيت على كثير
(٢٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 ... » »»