عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٩٠
19 ((باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الإستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى * (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * فاذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره * (إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) *.
الكلام فيه على وجوه الأول: وجه المناسبة بين البابين هو أن في الباب الأول ذكر الإيمان بالله ورسوله، وفي هذا الباب يبين ان المعتبر المعتد به من هذا الإيمان ما هو. الثاني: يجوز في قوله باب، الوجهان: أحدهما الإضافة إلى الجملة التي بعده، وتكون كلمة إذا، للظرفية المحضة، والتقدير: باب حين عدم كون الإسلام على الحقيقة. والوجه الآخر: أن ينقطع عن الإضافة وتكون، إذا، متضمنة معنى الشرط، والجزاء محذوف. والتقدير: باب إن لم يكن الإسلام على الحقيقة لا يعتد به، أو لا ينفعه، أو لا ينجيه، ونحو ذلك. وعلى كلا التقديرين ارتفاع باب على أنه خبر مبتدأ محذوف. اي: هذا باب. وقال الكرماني: فان قلت إذا، للاستقبال، ولم، لقلب المضارع ماضيا، فكيف اجتماعهما؟ قلت: إذا، هنا لمجرد الوقت، ويحتمل أن يقال: لم، لنفي الكون المقلوب ماضيا، و: إذا، لاستقبال ذلك النفي. الثالث: مطابقة الآيات للترجمة ظاهرة، لأن الترجمة أن الإسلام إذا لم يكن على الحقيقة لا ينفع، والآيات تدل على ذلك على ما لا يخفى. الرابع: قوله: (على الاستسلام) اي الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلم وليس هذا إسلاما على الحقيقة، وإلا لما صح نفي الايمان عنهم، لان الإيمان والاسلام واحد عند البخاري، وكذا عند آخرين، لأن الإيمان شرط صحة الإسلام عندهم. قوله: (أو الخوف أو القتل) أي وكان الإسلام على الخوف من القتل، وكلمة على التعليل، قوله: (فهو على قوله) اي: فهو وارد على مقتضى قوله، عز وجل * (ان الدين عند الله الاسلام) * (آل عمران: 19) الخامس: الكلام في قوله تعالى: * (قالت الاعراب) * (الحجرات: 14) الآية، وهو على أنواع. الأول: في سبب نزولها، وهو ما ذكره الواحدي: أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وافسدوا طرق المدينة بالعذرات، واغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول لله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالاثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فانزل الله تعالى عليه هذه الآية. النوع الثاني: في معناها، فقوله: (الاعراب) هم: أهل البدو قاله الزمخشري وفي (العباب): ولا واحد للأعراب، ولهذا نسب إليها ولا ينسب إلى الجمع وليست الأعراب جمعا للعرب كما كانت الأنباط جمعا للنبط، وإنما العرب اسم جنس، سميت العرب لأنه نشأ أولاد إسماعيل، عليه السلام، بعربة، وهي من تهامة، فنسبوا إلى بلدهم، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أهلها فهو عرب: يمنهم ومعدهم، وقال الأزهري: والأقرب عندي أنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال إسحاق بن الفرج: عربة باجة العرب، وباجة العرب دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، قال: وفيها يقول قائلهم:
* وعربة أرض ما يحل حرامها * من الناس إلا اللوذعي الحلاحل * يعنى به النبي صلى الله عليه وسلم، أحلت له مكة ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة. قال: واضطر الشاعر إلى تسكين الراء من عربة، فسكنها. قلت: اللوذعي: الخفيف الذكي، الظريف الذهن، الحديد الفؤاد، الفصيح اللسان، كأنه يلذع بالنار من ذكائه وحرارته. والحلاحل، بضم الحاء الأولى وكسر الثانية كلاهما مهملتان: السيد الركين. ويجمع على حلاحل بالفتح. قوله * (آمنا) * (الحجرات: 14) مقول قولهم. وقال الزمخشري الإيمان: هو التصديق بالله مع الثقة وطمأنينة النفس، والاسلام: الدخول في السلم والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله: * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * ( الحجرات: 14) فاعلم أن كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو ايمان. فان قلت: ما وجه قوله: * (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * (الحجرات: 14) والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا، ودفع ما انتحلوه، فقيل: قل لم تؤمنوا، وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه، فلم يقل: كذبتم، واستغنى بالجملة التي هي: لم تؤمنوا، عن أن يقال: لا تقولوا، الاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان. فان قلت: قوله: * (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * (الحجرات: 14) بعد قوله: * (قل لم تؤمنوا) * (الحجرات: 14) يشبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة. قلت: ليس كذلك
(١٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 185 186 187 188 189 190 191 192 193 194 195 ... » »»