الغدير - الشيخ الأميني - ج ٨ - الصفحة ٣١٩
إلى الربذة. قال " أبو ذر " الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني بكل ما أنا لاق قال عثمان: وما قال لك؟ قال: أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة.
الحديث.
هذا أبو ذر وفضايله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومكارمه وكرائمه ونفسياته وملكاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه، فأيا منها كان ينقمه الخليفة عليها فطفق يعاقبه ويطارده من معتقل إلى منفي، ويستجلبه على قتب بغير وطاء، يطير مركبه خمسة من الصقالبة الأشداء حتى أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتى سالت نفسه في منفاه الأخير " الربذة " على غير ماء ولا كلاء يلفحه حر الهجير، وليس له من ولي حميم يمرضه، ولا أحد من قومه يواري جثمانه الطاهر، مات رحمه الله وحده، وسيحشر وحده كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي خوله بتلكم الفضائل، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم، فانظر لمن الفلج يومئذ.
لقد كان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامته ومن ازدلف إليه ممن يجري مجراهم، فملكوا من عطاياه وسماحه الملايين، وليس فيهم من يبلغ شأو أبي ذر في السوابق والفضائل، ولا يشق له غبارا في أكرومة، فماذا الذي أخر أبا ذر عنهم حتى قطعوا عنه عطائه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشئ من الدعة، وأجفلوه عن عقر داره وجوار النبي الأعظم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولماذا نودي عليه في الشام أن لا يجالسه أحد (1)؟ ولماذا يفر الناس منه في المدينة؟ ولماذا حظر عثمان على الناس أن يقاعدوه ويكلموه؟ ولماذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحدا يكلمه؟
فلم يحل ذلك الصحابي العظيم إلا محلا وعرا، ولم يرتحل إلا إلى متبوأ الارهاب كأنما خلق أبو ذر للعقوبة فحسب، وهو من عرفته الأحاديث التي ذكرناها، وقصته لعمر الله وصمة على الاسلام وعلى خليفته لا تنسى مع الأبد.

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 4: 168.
(٣١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 314 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 ... » »»