بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢٨ - الصفحة ٢٨٦
إذ فقدت أبا بكر وعمر (1)، ثم لم ألبث حتى إذا أنا، بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمر بهم أحد إلا خبطوه، فإذا عرفوه مدوا يده على يد أبي بكر شاء ذلك أم أبى، فأنكرت عند ذلك عقلي جزعا منه، مع المصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فخرجت مسرعا حتى أتيت المسجد ثم أتيت بني هاشم والباب مغلق دونهم، فضربت الباب ضربا عنيفا، وقلت: يا أهل البيت فخرج إلى الفضل بن العباس، فقلت: قد بايع الناس أبا بكر، فقال العباس: قد تربت أيديكم منها آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني (2).
.

(١) في النهج ١ / ٧٤: فانى كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول:
القوم في سقيفة بنى ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث الخ.
(٢) فأول ما أشار بذلك إلى علي (عليه السلام) قبل رحلته ص روى ابن هشام في السيرة ٢ / ٦٥٤ والطبري في تاريخه ٣ / ١٩٣، والبيهقي في سننه ٨ / ١٤٩ نقلا عن البخاري و ابن كثير في تاريخه ٥ / ٢٥١ وابن سعد في طبقاته ٢ ق ٢ / ٣٨ كلهم بالاسناد عن ابن عباس قال: خرج يومئذ علي بن أبي طالب على الناس من عند رسول الله فقال له الناس: يا أبا حسن! كيف أصبح رسول الله؟
قال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيده ثم قال: يا علي! أنت والله عبد العصا بعد ثلاث، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله كما كنت أعرفه في وجوه بنى عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله فإن كان هذا الامر فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس، قال: فقال له على: انى والله لا أفعل، والله لئن متعناه لا يؤتيناه أحد بعده، فتوفى رسول الله ص حين اشتد الضحاء من ذلك اليوم.
أقول: اما علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نذر إليه بأن الأمة ستغدر به وأن الامر لا يصل إليه الا بعد ثالث ثلاثة، بل وقد كان يعرف جزئيات الامر وما سيقع في الأمة المرحومة!! حذو النعل بالنعل، بل وقد كان عرف (ع) حين نزل قوله تعالى " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " أن الفتنة لا تنزل و رسول الله بين أظهر هم، وإنما تنزل الفتن كقطع الليل المظلم حين ينزل برسول الله شكواه.
فقد كان (ع) يصدر عن أمر الرسول ويرد بعهد عهده إليه، كانت الجبال تزول ولا يزول هو (عليه السلام) لا بقلق ولا باضطراب، وحيث كان الطامعون لأمر الخلافة الشامخون لأنوفهم إليها يضطربون ويقلقون: هل يتم لهم الامر؟ وكيف تكون عاقبة هذه الفلتة؟
كان هو (عليه السلام) على سكينة ورباطة جأش يعلم عاقبة الامر رأى العين.
حينما قام رسول الله الأعظم بمسجد الخيف وقال: يوشك أن ادعى فأجيب، وانى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي " كان يعلم مآل أمر الأمة أنهم يحرقون كتاب الله ويمزقونه، ويجعلونه وراء ظهورهم، ثم يطردون ويشردون العترة الطاهرة و يقهرونهم.
حينما قام بغدير خم ونادى: " من كنت مولاه فهذا على مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " كان يعلم ويرى برأي العين أن الأمة سيردون أعقابهم القهقرى ويعيدون الامر جاهلية: يتخذون لرئاستهم وتنظيم شؤنهم أحدا منهم يرضونه على حد ما كان يتخذ كل قبيلة شيخا منهم للرئاسة والزعامة فيحالفون معه: هم يعطونه النصر والطاعة وهو يعطيهم رأيه في تدبير شؤنهم ونظم سياقهم - بصفقة خاسرة خائبة.
كما أنهم ارتدوا على أعقابهم وأحيوا سنن الجاهلية بعد ما كان رسول الله بدل الحلف الجاهلي بالبيعة الشرعية: هم يعطونه النصر والطاعة، وهو يضمن لهم الجنة صفقة رايحة بأمر من الله عز وجل " ان الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا، في التوراة والإنجيل والقرآن ".
نعم أحيوا سنة الجاهلية، تحقيقا لكلام الله العزيز " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " فأعادوا البيعة الاسلامية حلفة جاهلية، وصراخ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصطك في آذانهم " لا حلف ولا عقد في الاسلام " حيث إن الله عز وجل قد أكمل دينه يوم غدير خم للمؤمنين فلا يحتاجون لعقد بيعة ولا حلف.
وحينما بعث جيش أسامة وسير فيهم وجوه المهاجرين والأنصار، كان يعلم أنهم لا يطيعونه، وحيث كان يصر ويكرر من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " نفذوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنها " يعلم بعلم من الله عز وجل أنهم مفتونون غير مطيعين.
وحينما قال لهم يوم الخميس - وما يوم الخميس لما ظهر له أن القوم غير تاركين للمدينة وليسوا منفذين لجيشهم الذي أو عبوا فيه - قال لهم: " ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا " فعرف القوم أن هذا المكتوب لن يعدو ما قاله في عترته يوم خيف عموما. بل ولن يعدو ما قاله في علي يوم غدير خم خصوصا قال أحدهم ان الرجل ليهجر قد غلبه الوجع، ولما قالت نساؤه ص " ائتوا رسول الله بحاجته " قال عمر: اسكتن!
فإنكن صواحبه: إذا مرض عصرتن أعينكن وإذا صح أخذتن بعنقه، فقال رسول الله: هن خير منكم، قوموا عنى! فليس ينبغي عند نبي تنازع.
فرسول الله ص كان يعلم ذلك، وعلى (عليه السلام) كان يعلم بعهد عهده إليه جميع ذلك، الا انهما كالظل وذي الظل كانا يتبعان أمر الله وارادته في اتمام الحجة ليهلك من هلك عن بينة، و يحيى من حي عن بينة.
وأما العباس عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان يومئذ بمعزل عن هذه الحقائق الباطنة و الملحمة الناشئة، فكان يرى ظاهر الامر، ويتفقد لعلى امرة المسلمين ويسعى وراء ذلك بكل جده، لكنه قد دهش من اطباق الفتن واقبالها كقطع الليل المظلم فتراءى لنفسه أن يذهب مع علي إلى رسول الله ليتفرس حقيقة الامر، وهل يصل أمر الخلافة إلى علي ويتحقق في مستحقه مع هذه الفتن الشاغبة، ليسعى هو وراء أمنيته هذه; وان لا يصل إليه ولا يستقر الامر في مقره ويظفر هؤلاء الطغاة على سلطان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسئله أن يوصى الناس بهم كما أوصاهم بالأنصار.
فاقتراح العباس عم الرسول الأعظم لعلى أن يسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الامر، إنما كان أراد الامر الواقع في الخارج، على ما هو بعلم الله وعلم رسوله، لا حقيقة الامر والحكم الإلهي الذي صدع به الرسول في غدير خم بين الملا من قومه أدانيهم وأقاصيهم، ولذلك أجابه على أمير المؤمنين حقا، بأنه لا يفعل ذلك أبدا، فان رسول الله إذا أحابه في الملا من قومه و عشيرته وبمحضر من الأنصار والمهاجرين أن الامر لا يصل إلى علي عليه الصلاة والسلام، يعبره الغاشمون الظالمون على غير وجهه، فيقولون ان الامر يحدث بعد الامر، كان رسول الله أقام عليا بغدير خم علما هاديا ومولا مطاعا، ثم بدا له في آخر ساعاته وأوصى الأمة بهم كما أوصاهم بالأنصار.
هذه الإشارة هي الأولى.
وأما الإشارة الثانية من العباس إلى علي (عليه السلام) وتفقده الامر له وسعيه وراء هذه البغية، انه لما قبض رسول الله قال العباس لعلي بن أبي طالب وهما في الدار: امدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ويبايعك أهل بيتك فلا يختلف عليك اثنان فان هذا الامر إذا كان، لم يقل، فقال له على (عليه السلام): ومن يطلب هذا الامر غيري؟ أو يطمع فيها طامع غيري؟، قال العباس: ستعلم (شرح النهج الحديدي ١ / ٥٣، الإمامة و السياسة ١ / ١٢).
وأما لفظ الطبقات ج ٢ ق ٢ / ٣٩ بالاسناد عن فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) قالت:
لما توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال العباس يا علي قم حتى أبايعك ومن حضر، فان هذا الامر، إذا كان لم يرد مثله، والامر في أيدينا، فقال على وأحد - يعنى يطمع فيه - غيرنا؟ فقال العباس: أظن والله سيكون، فلما بويع لأبي بكر ورجعوا إلى المسجد سمع على التكبير فقال:
ما هذا؟ فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه فأبيت على، فقال على أيكون هذا؟ فقال العباس:
مارد مثل هذا قط، فقال عمر: قد خرج أبو بكر من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين توفى وتخلف عنده على وعباس والزبير، فذلك حين قال عباس هذه المقالة.
وروى البلاذري في الأنساب ١ / ٥٨٣ باسناده عن جابر بن عبد الله قال: " قال العباس لعلى: ما قدمتك إلى شئ الا تأخرت عنه، وكان قال له: لما قبض رسول الله اخرج حتى أبايعك على أعين الناس، فلا يختلف عليك اثنان، فأبى وقال: أو منهم من ينكر حقنا ويستبد علينا؟ فقال العباس: سترى أن ذلك يكون، فلما بويع أبو بكر، قال له العباس، ألم أقل لك يا علي؟
فنرى العباس يزاول الأمير بعين الظاهر، كأصحاب السقيفة، وعلى (عليه السلام) يأبى عليه الا مزاولة الباطن بعين الحقيقة وتنزيلهم منزلة الفتنة وهو على سكينة من الله عز وجل وعلم من لدنه لا يشوبه شك وريب.
وهذه الإشارة هي الثانية.
وأما الإشارة الثالثة، فقد أشار إليه بعد عمر أن لا يدخل معم في الشورى المسدسة و ينزه نفسه عن المقارنة معهم، وكان رأيه ذلك نصحا له من حيث الظاهر لكنه ص أبى عليه الا المضي على إرادة الله عز وجل من سلامة دينه وامضاء الفتنة واتمام الحجة عليهم وردا على تأول أصحاب النبي لقوله " انا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وان أهل بيتي سيلقون بعدى بلاء وتشريدا وتطريدا (ابن ماجة كتاب الفتن الباب ٤٣) ولقوله ص " انكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدى " (مجمع الزوائد ٩ / ١٩٤) بأن رسول الله قال " ان الله أبى أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة أبدا ".
فلو كان العباس يعلم عند ذاك - على ما نعرف اليوم نحن من اخبارهم - أن عليا لا يصدر الا عن عهد عهده إليه رسول الله لما عاتبه بقوله: " لم أدفعك في شئ الا رجعت إلى متأخرا بما أكره: أشرت عليك عند وفاة رسول الله في هذا الامر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفات رسول الله أن تعاجل الامر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، فاحفظ عنى واحدة: كلما عرض عليك القوم فأمسك إلى أن يولوك، واحذر هذا الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الامر حتى يقوم لنا فيه غيرنا " (العقد الفريد:
٢ / ٢٥٧، أنساب الأشراف 5 / 23) والكلام طويل الذيل، وسيجئ في محاله انشاء الله تعالى
(٢٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 291 ... » »»
الفهرست