(ولا يبلغه حد وهم) أي منتهاه لأن كل ما بلغه الوهم فهو ممكن ولا سبيل للإمكان في ساحة جنابه، وأيضا الوهم إنما يلحق بالمادي ويتعلق بأمور محسوسة ذات صور وأحيان حتى أنه لا يقدر نفسه ولا يدركها إلا ذات مقدار وجسم، والله سبحانه منزه عن المادة.
(ولا يدركه نفاذ بصر) قال الجوهري: «نفذ السهم من الرمية (1) ونفذ الكتاب إلى فلان، ورجل نافذ في أمره أي ماض» ونفاذ البصر بكل واحد من هذه المعاني محال على الله سبحانه، أما الأول فلأن شعاع البصر إنما ينفذ في جسم شفاف، وهو سبحانه ليس بجسم ولا شفاف، وأما الأخيران فلاستحالة أن يدرك سبحانه بحاسة البصر لأنه غير ذي وضع وكل غير ذي وضع يمتنع رؤيته، والمقدمة الأولى استدلالي والثانية ضرورية، وربما استدل عليها والمسألة مستقصاة في علم الكلام، ثم الظاهر من هذه المعاني هو الأول لأن الأخيرين قد ذكرهما سابقا.
(وهو السميع العليم) يعنى أنه السميع لا بآلة السمع، والعليم لا بعلم زائد عليه، لأنهما من صفات خلقه، بل هما عبارتان عن عدم خفاء المسموعات والمعلومات وإن كانت خفية دقيقة عند ذاته بذاته حتى يعلم كفر من كفر وإيمان من آمن. (و هو عليم بذات الصدور) والجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
(احتج على خلقه برسله) ليهدوهم إلى معرفة ذاته وصفاته، وحشره ونشره وثوابه عقابه وربوبيته، ومعرفة ما به يتم نظامهم في الدين وكمالهم في النشأتين; ويجذبوهم عن مقتضيات نفوسهم من اتباع الشهوات الباطلة واقتفاء اللذات الزائلة بتذكيرهم لما في الدار الباقية وتنفيرهم عن خسائس هذه الدار الفانية لئلا يكون لهم على الله حجة بعد الرسل.
(و أوضح الأمور بدلائله) أي أوضح أمور الرسل وحقية رسالتهم وشرايعهم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة لتقريب الخلق إلى التصديق وتبعيدهم عن التكذيب أو أوضح الشرايع بالرسل وأوصيائهم (عليهم السلام) أو أوضح وجود ذاته وكمال صفاته مثل العلم والقدرة وغيرهما بنصب سماء ذات أبراج وأرض ذات مهاد غير ذلك من الآثار الدالة على صدورها من العزيز الجبار، ولما كان الرسل علماء وحكماء يحملون الخلق على الطريقة الإلهية من معرفة أحوال المبدء أو المعاد وما يتبعهما من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة على حسبما يقتضيه الحكمة، وذلك قد يكون بالتذكير والتنبيه كما أشرنا إليه، وقد يكون بالتبشير والتهديد وهذا مما يحتاج إليه أكثر الناس لأن طبايعهم مثل طبايع الأطفال في الميل إلى الظاهر من الحياة الدنيا وزهراتها فيحتاجون في الميل إلى الخيرات والزجر عن المنهيات إلى الوعد الوعيد، أشار إليهما بقوله: