تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ٢٠٩
ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغة المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف - كما قال العلامة الثاني - وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده.
* (كانا يأكلان الطعام) * استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء، فالمراد من - أكل الطعام - حقيقته، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل: هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، وهذا أمر ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه، قيل: والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (التوبة: 43) حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم لئلا توحشه مفاجأته بذلك.
وقوله تعالى: * (انظر كيف نبين لهم الآيات) * تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعدما بين لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل من له أهلية ذلك، و * (كيف) * معمول - لنبين - والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها، والمراد من الآيات الدلائل أي - انظر كيف نبين لهم الدلائل - القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون.
* (ثم انظر أنى يؤفكون) * أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، و * (ثم) * لاظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي أنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون، ويؤفكون..
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) *.
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) * أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب، والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: * (ما) * نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، وتنبيها على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى - كالأصنام وغيرها - فغلب
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 » »»