تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ٢١٠
ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3). وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب - فما - على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
وقوله سبحانه وتعالى: * (والله هو السميع العليم) * في موضع الحال من فاعل * (أتعبدون) * مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى أتعبدون العاجز والله هو الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفرق بين الوجهين بأن * (ما) * على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن * (ما) * للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم..
* (قل ي‍اأهل الكت‍ابلا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سوآء السبيل) *.
* (قل يا أهل الكت‍اب) * تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بارادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم * (لا تغلوا في دينكم) * أي لا تجاوزوا الحد، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم * (غير الحق) * نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق - أي باطلا - وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية. وفي " الكشاف " " الغلو في الدين غلوان: (غلو) حق - وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد - وغلو باطل - وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الاهواء والبدع " - انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا، وجوز أن يكون * (غير) * حالا من ضمير الفاعل أي: لا تغلوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي: لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع.
* (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل) * وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في شريعتهم،
(٢١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 » »»