تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ٢١٢
وقيل: المراد به اللغة.
* (ذلك) * أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول * (بما عصوا) * أي بسبب عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم، وقوله تعالى: * (وكانوا يعتدون) * يحتمل أن يكون معطوفا على * (عصوا) * فيكون داخلا في حيز السبب، أي وبسبب اعتدائهم المستمر، وينبىء عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل.
وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك لا غير، ولعله - كما قيل - استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق * (بما عصوا) * بلعن دون ذكر اسم الإشارة، فما جيء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر، وقيل: استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضا - كما يشعر به أخذه في حيز الصلة - لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز الحد في العصيان..
* (كانوا لا يتن‍اهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) *.
وقوله تعالى * (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) * مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر - كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل - بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا، كما في تراؤا الهلال، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحا، وعلى الأول: إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبي حيان.
والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في * (فعلوه) * بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل * (منكر) * أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، وبحمل * (فعلوه) * على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) * (النحل: 98). واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه،
(٢١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 » »»