مثلا: هذا صاحب مصنع ينتج بضائع وهي - أول ما تكون - في غاية الجودة والإتقان وتضاهي البضاعة الأجنبية، فتحتل مكانا مرموقا في الأسواق ويقبل عليها الناس، ثم بعد مدة تأخذ بالتنزل شيئا فشيئا حتى تصل إلى درجة من الرداءة بحيث يعرض عنها الناس ولا يرغب في اقتنائها أحد وربما ينجر الأمر في ذلك إلى توقف المصنع عن العمل كليا. وهذا يرجع إلى صاحب المصنع الذي اكتفى بالشهرة الأولى التي حصلت لمنتوجات مصنعه ثم أخذ لا يجيد الصناعة بل يغش فيها، فازدياد الطلب عليها - في أول الأمر - بدلا من أن يكون حافزا على تحسين البضاعة أو إبقائها على ما هي عليه - على الأقل - نراه يكون موجبا للانحدار إلى الأخس، وهذا بعكس ما تفعله الدول الأجنبية المتقدمة حيث كلما يزداد الطلب في الأسواق وتلاقي البضاعة رواجا وشهرة تزداد إتقانا وجودة.
وعملنا ذاك هو خلاف تعاليم ديننا وأوامر نبينا - صلى الله عليه وآله - حيث قال: " رحم الله من عمل عملا وأتقنه " (1) وقال: " رحم الله امرءا أحسن صنعته " (2).
والظاهر أن عدم الإتقان والتهاون في الأمور لم يقتصر على الصناعات والحرف والمهن، بل انتقلت العدوي حتى إلى المجال العلمي البحت، فلم يعد التأليف والتحقيق - وخصوصا الثاني - بمنأى عن تلك الحالة آنفة الذكر.
فالتحقيق - وأخصه بالذكر لأنه المقصود من هذه المقالة - ما عاد تحقيقا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل انتهى به الأمر إلى أن صار عبارة عن نسخة أخرى للمخطوط إلا أنها مطبوعة بالآلة المعروفة وتلك - أعني المخطوط - باليد المجردة إلا من القلم، بل أكثر من ذلك.. إنها نسخة مشوهة عن الأصل تثبط العزائم عن مراجعة الأصل، لأن المطبوع ظاهر في متناول اليد وهو هو، وبذلك يكون الأصل قد ترك اللهم إلا في بعض الحالات الشاذة فيأتي من يحقق الكتاب ثانية، فيا