وبيان الحال: أن (الشفاعة) إن كانت من قبيل الدعاء، فيرجع طلبها إلى التماس الدعاء من الأنبياء والأولياء، فتكون عبارة عن دعاء مخصوص لنجاة الغير، أو قضاء حاجته في أمور الدنيا والآخرة، فلا كلام ولا بحث في جواز طلبها من كل أحد، فهي كما لو سألت إخوانك الدعاء. ويؤيد ذلك أنه لما سئل إدريس عليه السلام الشفاعة دعا.
ولا فرق بين الأحياء والأموات، فأنا سنبين - إن شاء الله - تواتر الأخبار في أن الأموات يسمعون وينطقون، لكن الناس لا يسمعون كلامهم. فالشفاعة بهذا المعنى لا غضاضة في طلبها، إذ لسنا في ذلك بمنزلة من قالوا لا طاقة لنا بعبادة الله، ونحن نعبد الأصنام، وهم يوصلوننا إلى الله.
وإن أريد بالشفاعة منصب أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأوليائه، فيدفعون بالأذن العام عن الناس، بمعنى أن الله أذن إذنا عاما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في إنقاذ بعض أهل العذاب من العذاب يوم يقوم الحساب، فبهذا المعنى تكون مخصوصة في الآخرة.
ولا ريب أن المستشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأولياء في دار الدنيا، يريد المعنى الأول.
فليت شعري ما الذي ينكر من طلب الشفاعة، أمن جهة خطاب الموتى فلذلك لا يوجب كفرا ولا إشراكا، لو كان خطأ، فكيف لو كان صوابا، أو من جهة إسناد الأمر إلى غير الله سبحانه، وهذا أعجب من السابق، فأن الداعي والساعي في حاجة أحد إلى مولاه لا يرتفع عن درجة العبودية، ولا سيما إذا لم يحدث شيئا إلا عن إذنه.
ومن البديهية (1) أن العبيد والخدام القائمين بشرائط العبودية والخدمة مع الأذن يشفعون عند مواليهم في قضاء حوائج الناس، ولا يخرجهم ذلك عن العبودية والخدمة، بل هذا نوع من العبودية.
وفي أحاديث الشفاعة ما يدل على عموم الشفاعة في دفع المضار الدنيوية والأخروية.
وقد نقل عن الصحابة بطرق معتبرة أن الصحابة كانوا يلجأون إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويندبونه في الاستسقاء ورفع الشدائد والأغراض الدنيوية.
روى البيهقي بطريق صحيح عن مالك الدار خازن عمر رضي الله عنه أنه أصاب الناس قحط، فذهب رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استسق لأمتك فقد هلكوا، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقال له: قل لعمر: قد سقوا (2).