تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٨٢
المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير في أحوالهم قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لافراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال. ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين من الحر والبرد وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا فالإقليم الرابع أعدل العمران والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال والذي يليهما والثاني والسادس بعيدان من الاعتدال والأول والسابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا حتى النبوءات فإنما توجد في الأكثر فيها ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم. قال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله وأهل هذه الإقليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم وهؤلاء أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منها من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين ومن كان مع هؤلاء أو قريبا منهم في هذه الأقاليم المعتدلة ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول والثاني والسادس والسابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطين
(٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 ... » »»