العثمانية - الجاحظ - الصفحة ٣٢٢
أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله صلى الله عليه وآله مجمع على الخروج من بينهم للهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه وأن يضربوه بأسياف كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين الشعوب، ويتفرق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش، وتحالفوا على ذلك تلك الليلة واجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وآله من أمرهم دعا أوثق الناس عنده وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الاله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته، فقال له: إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردى الحضرمي، ليروا أنى لم أخرج، وإني خارج إن شاء الله. فمنعه أولا من التحرز وإعمال الحيلة، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أرباب الحنق والغيظة، فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا، طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابرا محتسبا، واقيا له بمهجته ينتظر القتل، ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب، " والجود بالنفس أقصى غاية الجود (1) " ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم أنه أهل لذلك لما أهله، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك، لكان من اختاره منقوضا في رأيه، مضرا في اختياره ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الاسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول صلى الله عليه وآله عمل الصواب، وأحسن في الاختيار.
ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل: منها أنه وإن كان عنده في موضع الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء. ومنها أنه وإن كان ضابطا للسر وثقة عند من اختاره فغير مأمون عليه الجبن عند مفاجأة المكروه ومباشرة الأهوال، فيفر من الفراش، فيفطن

(1) عجز بيت لمسلم بن الوليد وصدره:
* يجود بالنفس إن ضن الجواد بها *
(٣٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 317 318 319 320 321 322 323 324 325 326 327 ... » »»