" وأرسلت إلى الناس كافة "، قلنا: لو كان هذا حديثا واحدا كنا نقول: لعل هذا اختلاف من الرواة، ولكن الذي ينبغي ان يقال: انهما حديثان، لان حديث مسلم من رواية أبي هريرة، وفيه ست خصال، وحديث البخاري من رواية جابر وفيه خمس خصال.
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما في وقتين، وفي حديث مسلم زيادة في عدة الخصال، وفي سنن المرسل إليهم فيجب إثباتها زيادة على حديث جابر، وليس بنا ضرورة إلى حمل أحد الحديثين على الأظهر إذ لا منافاة بينهما، بل هما حديثان مختلفا المخرج والمعنى، وإن كان بينهما اشتراك في أكثر الأشياء، وخرج كل من صاحبي الصحيحين واحدا منها ولم يذكر الاخر.
فهذا الحديث الذي ذكرناه عن مسلم واستدللنا به أصرح الأحاديث الصحيحة الدالة على شمول الرسالة للجن والانس.
ومن الأدلة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وشرعته آخر الشرائع وناسخة لكل شريعة قبلها، ولا شريعة باقية الان غير شريعته، ولذلك إذا نزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم انما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لو يكن الجن مكلفين بها لكانوا إما مكلفين بشريعة غيرهما، وهو خلاف ما تقرر، وإما ألا يكونوا مكلفين أصلا، ولم يقل أحدا بذلك، ولا يمكن القول به، لان القرآن كله ملئ بتكليفهم، قال تعالى: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وقال (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار) إلى غير ذلك من الآيات، ودخولهم النار دليل على تكليفهم، وهذا أوضح من أن يقام عليه دليل، فان تكليفهم معلوم من الشرع بالضرورة، وتكليفهم بغير هذه الشريعة يستلزم بقاء شريعة معها، فثبت أنهم مكلفون بهذه الشريعة كالإنس وقال ابن حزم الظاهري:
قد أعلمنا الله ان نقدا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم صحابه فضلاء. هذا والله تعالى أعلى وأعلم.