سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ١٢ - الصفحة ٥٦٦
ما يفوت البخاري ومسلما (1) مما ثبت (2) من الحديث.
قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخا حسن الوجه والثياب، عليه رداء حسن، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه.
فقيل: هذا مسلم. فتقدم أصحاب السلطان، فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين، فقدموه في الجامع، فكبر، وصلى بالناس.
قال أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليف " صحيحه " خمس عشرة سنة (3). قال: وهو اثنا عشر ألف حديث (4).
قلت: يعني بالمكرر، بحيث إنه إذا قال: حدثنا قتيبة، وأخبرنا ابن رمح يعدان حديثين، اتفق لفظهما أو اختلف في كلمة.
قال الحافظ ابن مندة: سمعت أبا علي النيسابوري الحافظ يقول:
ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم (5).

(١) في الأصل: ومسلم، بالرفع، وهو خطأ.
(٢) الخبر في " جامع الأصول " ١ / ١٨٨ بلفظ: يثبت. وإن كان يراد من هذا الخبر ما دوناه في " صحيحيهما " ففيه نظر، لأنه قد فاتهما كثير من الأحاديث الصحيحة استدركها عليهما من ألف في الصحيح كابن خزيمة وابن حبان وغيرهما.
(٣) في " مقدمة صحيح مسلم " بشرح النووي: ١٤: ست عشرة سنة.
(٤) مجموع ما في " صحيح مسلم " من الأحاديث غير المكررة (٣٠٣٣) حديثا.
والخبر في " تذكرة الحفاظ " ٢ / ٥٨٩.
(٥) " تاريخ بغداد " ٣ / ١٠١، و " وفيات الأعيان " ٥ / ١٩٤، و " تذكرة الحفاظ " ٢ / ٥٨٩، و " جامع الأصول " ١ / ١٨٨، و " البداية والنهاية " ١١ / ٣٣ وقد قال ابن كثير في " البداية والنهاية " ١١ / ٣٣ في ترجمة مسلم: صاحب " الصحيح " الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء. وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شئ من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في " الصحيح " لها ما أورده في " جامع " معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه.
وقال ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ١٠ / ١٢٧: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لاحد مثله، بحيث إن بعض الناس كان يفضله على " صحيح " محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق، وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى.
وقال الامام النووي رحمه الله في " شرحه لصحيح مسلم ": ١٤: اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز: " الصحيحان " البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول. وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة. وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث. وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير وأهل الاتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث. وقال أبو علي الحسين بن علي النيسابوري الحافظ شيخ الحاكم أبي عبد الله بن البيع: كتاب مسلم أصح، ووافقه بعض شيوخ المغرب، والصحيح الأول.
وقد قرر الامام الحافظ الفقيه النظار أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله في كتابه " المدخل " ترجيح كتاب البخاري، وروينا عن الامام أبي عبد الرحمن النسائي رحمه الله أنه قال: ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب البخاري.
قلت: (القائل النووي) ومن أخصر ما ترجح به اتفاق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم وأعلم بصناعة الحديث منه، وقد انتخب علمه عليه ولخص ما ارتضاه في هذا الكتاب، وبقي في تهذيبه وانتقائه ست عشرة سنة، وجمعه من ألوف مؤلفة من الأحاديث الصحيحة....
ومما ترجح به كتاب البخاري أن مسلما رحمه الله كان مذهبه، بل نقل الاجماع في أول " صحيحه " أن الاسناد المعنعن له حكم الموصول ب‍: سمعت بمجرد كون المعنعن والمعنعن عنه كانا في عصر واحد، وإن لم يثبت اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما، وهذا المذهب. يرجح كتاب البخاري....
وقد انفرد مسلم بفائدة حسنة، وهي كونه أسهل متناولا من حيث إنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به، جمع فيه طرقه التي ارتضاها واختار ذكرها، وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فيسهل على الطالب النظر في وجوهه واستثمارها، ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه بخلاف البخاري، فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به، وذلك لدقيقة يفهمهما البخاري منه، فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث.
(٥٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 561 562 563 564 565 566 568 569 570 571 572 ... » »»