سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ٧ - الصفحة ١٥٤
بالقدر يكتب حديثه؟ قال: نعم، قد كان قتادة، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الوارث - وذكر جماعة - يقولون بالقدر، وهم ثقات، يكتب حديثهم ما لم يدعوا إلى شئ.
قلت: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا علم صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعيا إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته، والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية، هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه، وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه، وكان داعية، ووجدنا عنده سنة تفرد بها، فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الاسلام، ولم تبح دمه، فإن قبول ما رواه سائغ.
وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة، ولم يعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الاسلام لصدقهم وحفظهم (1).

(1) جاء في " تاريخ الثقات " لابن حبان، في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي ما نصه:
ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها، أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إلى بدعته، سقط الاحتجاج بأخباره. وقال أيضا في " صحيحه: 120: " وأما المنتحلون المذاهب من الرواة مثل الارجاء والترفض وما أشبههما، فإنا نحتج بأخبارهم إذا كانوا ثقات، على الشرط الذي وصفناه، ونكل مذهبهم وما تقلدوه فيما بينهم وبين خالقهم إلى الله - جل وعلا - إلا أن يكونوا دعاة إلى ما انتحلوا، فإن الداعي إلى مذهبه، والذاب عنه حتى يصير إماما فيه - وإن كان ثقة - ثم روينا عنه، جعلنا للاتباع لمذهبه طريقا، وسوغنا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله. فالاحتياط ترك رواية الأئمة الدعاة منهم، والاحتجاج بالثقات الرواة منهم، على حسب ما وصفنا. ولو عمدنا إلى ترك حديث الأعمش، وأبي إسحاق، وعبد الملك بن عمير، وأضرابهم، لما انتحلوا، وإلى قتادة، وسعيد بن أبي عروبة، وابن أبي ذئب، وأشباههم، لما تقلدوا، وإلى عمر بن ذر، وإبراهيم التيمي، ومسعر بن كدام، وأقرانهم، لما اختاروا، فتركنا حديثهم لمذاهبهم، لكان ذلك ذريعة إلى ترك السنن كلها، حتى لا يحصل في أيدينا من السنن إلا الشئ اليسير ".
والحق في هذه المسألة، كما قال العلامة محمد بخيت المطيعي في حاشيته على " نهاية السول ": 3 / 744: قبول رواية كل من كان من أهل القبلة، يصلي بصلاتنا، ويؤمن بكل ما جاء به رسولنا مطلقا، متى كان يقول بحرمة الكذب، فإن من كان كذلك، لا يمكن أن يبتدع بدعة إلا وهو متأول فيها، مستند في القول بها إلى كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتأول رآه باجتهاده، وكل مجتهد مأجور - وإن أخطأ -. نعم، إذا كان ينكر أمرا متواترا من الشرع، معلوما من الدين بالضرورة، أو اعتقد عكسه، كان كافرا قطعا، لان ذلك ليس محلا للاجتهاد، بل هو مكابرة فيما هو متواتر من الشريعة، معلوم من الدين بالضرورة، فيكون كافرا مجاهرا، فلا يقبل مطلقا، حرم الكذب أو لم يحرمه.
(١٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 159 ... » »»