وقد استخرنا الله علام الغيوب فشرح صدرنا للتصدي للعمل الضخم فتوكلنا على الله لانجاز هذا التاريخ العظيم ووضعه بين أيدي الناس هنيئا سلسا. فتتبعنا مخطوطاته شرقا وغربا فأتينا بها جاهدين. وكان مما أثار حماسنا أنه أثناء المؤتمر الذي عقد في دمشق بمناسبة مرور 900 سنة على وفاة مصنفه الحافظ المحدث الثقة ابن عساكر ومن المناقشات التي دارت في المؤتمر لمسنا أنه لا أحد مهيؤ لانجاز هذا المشروع الكبير الذي بدأه المجمع العلي العربي بدمشق منذ أربعين عاما، ولم ينجزه لأسباب شتى.
ومصنف الكتاب الحافظ ابن عساكر سليل أسرة عربية اشتهرت بالعلم والفقه والحديث والقضاء والفتيا.
ولد هذا العالم الجليل في دمشق سنة (499) ه وشب ونما في مناخها الصافي وترعرع في أحضان مدارسها وحلقات الأقراء والحديث الحافلة التي كانت تعقد في مسجد بني أمية، وفي منارات أخرى للعلم والحديث والفقه كالمدرسة الغزالية (1) التي كان يتردد عليها ويأخذ عن أرباب العلم الذين كانوا يدرسون فيها فكان لكل ذلك أثر كبير في توجهه نحو العلم ونبوغه فيه.
ولكن بعد وفاة أبيه وفي سنة (520) عقد العزم على الرحلة إلى طلب العلم وشأنه في ذلك شأن كل العلماء الذين نبغوا وارتقوا مدارج العلم والمعرفة. فاتجه نحو العراق أولا، ففيها من العلماء من يرحل إليه، وعاد إلى دمشق بعد سنة قاصدا الحج، وفي مكة والمدينة ومنيه، سمع ممن لقي من العلماء، وحدث بمكة.
ثم عاد من مكة ميمما شطر العراق ثانية فأقام في العراق خمس سنين، في بغداد وسائر مدن العراق، وكانت حافلة بشيوخ العلم، كالموصل والرحبة والجزيرة وماردين والكوفة متنقلا بينها شمالا وجنوبا. وقد استمع إلى كبار المحدثين (ذكرهم في معجم شيوخه). وينهي رحلته العلمية هذه ويعود إلى بغداد ومنها إلى دمشق بعد أن استنفد ما عند علماء بغداد وشيوخها وضمنه صدره وصحائفه.
وفي دمشق أخذ يستعد لرحلة جديدة في طلب الحديث ولكن هذه المرة إلى ما وراء بغداد، إلى خراسان ففيها من مراكز الحديث والمحدثين ما يشد إليه الرحال أيضا، وكان ذلك سنة (529 ه).