الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٧٧٥
أو يكون لمعاذ وغيره، فإن كان ذلك فكل من اجتهد رأيه فقد فعل ما أمر به، وإذ الامر كذلك فإن كل من فعل ما أمر به فهم كلهم محقون ليس أحد منهم أولى بالصواب من آخر، فصار الحق على هذا في المتضادات، وهذا خلاف قولهم، وخلاف المعقول، بل هذا المحال الظاهر، وليس حينئذ لاحد أن ينصر قوله بحجة، لان مخالفه أيضا قد اجتهد رأيه، وليس في الحديث الذي احتجوا به أكثر من اجتهاد الرأي ولا مزيد، فلا يجوز لهم أن يزيدوا فيه ترجيحا لم يذكر في الحديث وأيضا فليس أحد أولى من أحد مع هذا، فلكل واحد منا أن يجتهد برأيه، فليس من اتبعوا أولى من غيره، ومن المحال البين أن يكون ما ظنه الجهال في حديث معاذ - لو صح - من أن يكون صلى الله عليه وسلم يبيح لمعاذ أن يحلل برأيه ويحرم برأيه، ويوجب الفرائض برأيه ويسقطها برأيه وهذا ما لا يظنه مسلم، وليس في الشريعة شئ غير ما ذكرنا البتة.
وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقع فيه المشورة منه، وفرق بينه وبين الدين، كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي، نا أبو بكر بن مفرج القاضي، ثنا محمد بن أيوب الصموت الرقي، نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، نا عمرو بن علي، نا عفان بن مسلم، نا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتا فقال: ما هذه الأصوات؟ قالوا:
النخل يؤبرونه، فقال: لو لم يفعلوا لصلح فأمسكوا عنه فصار شيصا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي.
وبه إلى البزاز: نا هدبة بن خالد، نا جهاد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتا في النخل، فقال: ما هذا؟ قال: يؤبرون النخل قال: لو تركوها أصلحت، فتركوها فصارت شيصا، فأخبروه بذلك فقال:
أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم، وأما آخرتكم فإلي.
قال أبو محمد: فهذه عائشة وأنس لم يدعا في روايتها إشكالا، وأخبرا أنه عليه السلام أعلمنا أننا أعلم بما يصلحنا في دنيانا منه، ففي هذا كان يشاور أصحابه،
(٧٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 770 771 772 773 774 775 776 777 778 779 780 ... » »»
الفهرست