أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٩ - الصفحة ٥٢
وفيهم، ولا يبعد أن يقال: إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر، بخلاف بني آدم، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء. ونحو ذلك من الجانب الحيواني.
وازدواجية المجهود، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها، ويبذل الجهد في فعل الخير، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر، هو يجاهد للقيام بفعل الخير، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد.
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه (أن يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين، فقالوا: خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال: بل خمسين منكم، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون).
وحديث (سبق درهم مائة ألف درهم) وبين صلى الله عليه وسلم، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة، لأنه ثاني اثنين فقط، والمائة ألف جزء من مجموع كثير.
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك، ولا يتبقى لها إلا درهم، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة. فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى. والله تعالى أعلم. * (جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا) *. فيه أربع مسائل. ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن. والرابعة مفصلة ولها شواهد.
وأما الثلاثة المجملة فأولها قوله: * (جزآؤهم عند ربهم) *، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه، وإلا لقال: جزاؤهم على ربهم.
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى: * (إن للمتقين مفازا * حدآئق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزآء من ربك عطآء حسابا) *، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده.
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»