أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٨ - الصفحة ١٠
وفي موطأ مالك: لما رجع صلى الله عليه وسلم من سفر طلع عليهم أحد فقال (هذا جبل يحبنا ونحبه).
فهذا جبل من كبار جبال المدينة يرتجف لصعود النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فيخاطبه صلى الله عليه وسلم خطاب العاقل المدرك: (أثبت أحد فإن عليك نبيا وصديقا وشهيدين)، فيعرف النبي ويعرف الصديق والشهيد فيثبت، فبأي قانون كان ارتجافه؟ وبأي معقول كان خطابه؟ وبأي معنى كان ثبوته؟ ثم ها هو يثبت له صلى الله عليه وسلم المحبة المتبادلة بقوله: يحبنا ونحبه.
وإذا ناقشنا أقوال القائلين بتخصيص هذا العموم من إثبات التسبيح للجمادات ونحوها، لما وجدنا لهم وجهة نظر إلا أن الحس لم يشهد شيئا من ذلك، وقد أوردنا الأمثلة على إثبات ذلك لسائر الأجناس، وتقدم تنبيه الشيخ على تأكيد ذلك بقوله تعالى: * (وكنا فاعلين) * ردا على استبعاده.
ومن الأدلة القرآنية في هذا المقام، ما جاء في سياق قوله تعالى: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده) *، جاء بعدها قوله تعالى: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا) * وهذا نص يكذب المستدلين بالحس. لأن الله تعالى أخبر بأنه جعل بين الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبه عنهم، وهذا الحجاب مستور عن أعينهم فلا يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه محجوب عنهم، ولا يرون الحجاب لأنه مستور، وهذا هو الصحيح في هذه الآية.
وقد قال فيها بعض البلاغيين. إن مستورا هنا بمعنى ساترا ويقال لهم: إن جعل مستورا بمعنى ساتر تكرار لمعنى حجاب، لأن قوله تعالى: * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا) * هو بمعنى ساتر، أي يستره عن الذين لا يؤمنون بالآخرة وليس في ذلك زيادة معنى، ولا كبير معجزة، ولكن الإعجاز في كون الحجاب مستورا عن أعينهم، وفي هذا تحقيق وجود المعنيين، وهما حجبه صلى الله عليه وسلم وسلم عنهم، وستر الحجاب عن أعينهم، وهذا أبلغ في حفظه صلى الله عليه وسلم منهم، لأنه لو كان الحجاب مرئيا أي ساترا فقط مع كونه مرئيا لربما اقتحموه عليه، وأقوى في الإعجاز، لأنه لو كان الحجاب مرئيا لكان كاحتجاب غيره من سائر الناس. ولكن حقيقة الإعجاز فيه هو كونه مستورا عن
(١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 ... » »»