أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٨ - الصفحة ٣٥
وإيثار، ومع هذا فقد كان منه صلى الله عليه وسلم أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته، فيقول لأصحابه: (من يضيف هذا، الليلة وله الجنة؟) فيأخذه بعض أصحابه، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا: ألا يجدوا ما يحملهم عليه، ويأتيه القدح من اللبن، فيدعو: يا أهل الصفة. ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار، منهم من يجهز الجيش من ماله، ومنهم من يتصدق بالقافلة كلماة وما فيها، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ومنهم ومنهم فلم يأخذ قط ولا درهما واحدا ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل، لم يأخذ منه درهما بدون رضاه، ليشارك معه فيه واحدا من أهل الصفة، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة، يسد مسغبته، ولا بعيرا واحدا ممن جهز جيشا من ماله ليحمل عليه متطوعا في سبيل الله.
إنها أموال محترمة، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس، إلا برضى نفس وطيب خاطر، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون، ويعطون ولا يشحون، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكان مجتمعا متكافلا مؤتلفا متعاطفا وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى: * (للفقرآء المهاجرين) *، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى.
وللشيخ رحمه الله تعالى كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا) *. نسوق نصه لأهميته:
قال رحمه الله: مسألة: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) *. وقوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق) *. ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه، * (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) * وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع
(٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 ... » »»