وقال البخاري في صحيحه في كتاب الحج: باب لبس السلاح للمحرم، وقال عكرمة: إذا خشي العدو، لبس السلاح وافتدى ولم يتابع عليه في الفدية.
حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب) ا ه منه.
وقوله: ولم يتابع عليه في الفدية، يدل على أنه توبع في لبس السلاح للضرورة، لأن معنى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب، أنه صالح كفار مكة صلح الحديبية، أنه إن دخل معتمرا عام سبع في ذي القعدة لا يدخل مكة السيوف إلا في أغمادها، والقراب غمد السيف، فدل ذلك على جواز دخول المحرم متقلدا سيفه للخوف من العدو.
وقال البخاري في صحيحه في باب عمرة القضاء: حدثني عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال (لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام) الحديث بطوله، وفيه (فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب) الحديث. وفي لفظ للبخاري في كتاب الصلح (لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب) وفي لفظ له في كتاب الصلح أيضا (ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح) فسألوه ما جلبان السلاح؟ فقال: القراب بما فيه) والجلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة بعدها ألف، ثم نون: هو قراب السيف ويطلق على أوعية السلاح، ويروى بتسكين اللام، وتخفيف الباء، وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودا.
وقال صاحب اللسان: والقراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا ه والقراب ككتاب ومن جمعه على قرب بضمتين قوله: وقال صاحب اللسان: والقراب غمد السيف والسكين، ونحوهما وجمعه قرب أي بضمتين، وفي صحاح الجوهري: قراب السيف: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده، وحمالته ا ه والقراب ككتاب ومن جمعه على قرب بضمتين قوله:
* يا ربة البيت قومي غير صاغرة * ضمي إليك رحال القوم والقربا * يعني: ضمي إليك رحالهم وسلاحهم، في أوعيته.
وبهذه الأحاديث: استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين، لأن الكفار لا يوثق بعهودهم.
وقد علمت أن بعض أهل العلم قال: إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة، والله تعالى أعلم.
وللمخالف أن يقول: إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تقلدوها. ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه، وعلى هذا الاحتمال، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس عشر: قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك.
اعلم: أن الأئمة الثلاثة: مالكا، والشافعي، وأحمد: لا فرق عندهم، بين أن يطيب جسده كله أو عضوا منه، أو أقل من عضو، فكل ذلك عندهم إن فعله قصدا يأثم به، وتلزمه الفدية.
وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضوا كاملا، مثل الرأس، والفخذ، والساق: فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، وهي عندهم نصف صاع من بر أو صاع من غيره، كتمر وشعير. وقد قدمنا مرارا أن مذهب أبي حنيفة: أنه إن فعل المحظور، كاللباس، والتطيب، لا لعذر، فعليه دم، وتجزئه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية، على التخيير، وإن كان المحرم طيبا كثيرا: لزمه الدم عند أبي حنيفة، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف: تجب في ذلك الصدقة، وعن محمد: أنه إن طيب أقل من عضو لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو، فعليه ثلث دم مثلا، وهكذا، وعن بعض الحنفية: أنه إن طيب ربع عضو: لزمه الدم كاملا كحلق ربع الرأس، فهو عندهم كحلق جميعه وهذا خلاف المشهور في تطيب بعض العضو عندهم. وظاهر كلامهم أنه لو جعل طيبا كثيرا على بعض عضو، فليس عليه إلا الصدقة. وصحح بعض الحنفية: أنه إن كان الطيب قليلا فالعبرة بالعضو، وإن كان كثيرا فالعبرة بالطيب، وله وجه من النظر، وعن بعض الحنفية أن من مس طيبا بأصبعه، فأصابها كلها فعليه دم. وعن أبي يوسف: إن طيب شاربه كله أو يقدره من لحيته، أو رأسه فعليه دم، وعن بعض الحنفية: أنه إن اكتحل بكحل مطيب، فعليه صدقة، ومثله الأنف، فإن فعل ذلك مرارا كثيرة فعليه دم، وفي مناسك الكرماني: لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد، لاتحاد الجنس، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله، فإن بلغ عضوا: فعليه دم، وإلا فصدقة، ولو شم طيبا فليس عليه شيء، وإن دخل بيتا مجمرا، فليس عليه شيء، وإن أجمر ثوبه، فإن تعلق به كثيرا، فعليه دم، وإلا فصدقة ا ه من تبيين الحقائق.
وقال بعض الحنفية: إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، سواء ذبح للأول أو لم يذبح. وقال محمد: إن ذبح للأول، فكذلك، وإن لم يذبح فعليه دم واحد، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ا ه.
وأظهرها عندي قول محمد: والحناء عندهم طيب، فلو خضب رأسه بالحناء، لزمه الدم. واستدلوا بحديث الحناء طيب. قالوا رواه البيهقي. وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في المعرفة، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعا، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب، والعلم عند الله تعالى: هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم.