وهو دليل واضح لصحة ما فهمه أبو عبد الرحمان النسائي رحمه الله من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة المذكور آنفا.
وممن قال: بأن المراد بالثلاث في حديث طاوس المذكور الثلاث المفرقة بألفاظ نحو أنت طالق أنت طالق أنت طالق ابن سريج فإنه قال: يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق. وكانوا أولا على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه؛ مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار فأمضاه عليهم. قاله ابن حجر في الفتح وقال: إن هذا الجواب ارتضاه القرطبي وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة.
وقال النووي في شرح مسلم ما نصه: وأما حديث ابن عباس فاختلف الناس في جوابه وتأويله فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أن طالق أنت طالق ولم ينو تأكيدا ولا استئنافا يحكم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد. فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه وكثر استعمال الناس لهذه الصيغة وغلب منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملا بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الوجه لا إشكال فيه؛ لجواز تغير الحال عند تغير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس في شئ من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد ولم يتعين ذلك من اللغة ولا من الشرع ولا من العقل كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم في حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن أحمد وأبي يعلى من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد وقوله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟