تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣٠ - الصفحة ٧٠
ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الأخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على أخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الأخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الاعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى.
* (ألا يظن أول‍ائك أنهم مبعوثون) * * (ألا يظن أولئكأنهم مبعوثون) * استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للانكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للاشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الاشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليه إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي ألا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون.
* (ليوم عظيم) * * (ليوم عظيم) * لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم اسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيث حكى سبحانه عنهم إن نظن إلا ظنا ولم يثبته عز وجل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الانكار وقوله تعالى:
* (يوم يقوم الناس لرب الع‍المين) * * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم أو مجرور كما قال الفراء بدلا من يوم عظيم وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي يوم بالرفع وقراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ يوم بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والاتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يوم يقوم الخ منه على القول به ووصفه
(٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 ... » »»