تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٩ - الصفحة ٨٠
كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم وكانت بعثته لبعض منهم كسكان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كانوا غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلى الله عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من كل وجه وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلا كأهل بيت واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص بنبينا عليه الصلاة والسلام هو العموم المندرج فيه الإنس والجن إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسألة والطوفان لا نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه فالبلاء قد يعم الصالح والطالح لكن يصدرون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم وقد سئل الحسن عن ذلك فقال علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب نعم الحكمة في إهلاك هؤلاء زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا أبصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله عز وجل لا تحصى فافهم.
* (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * * (إنك إن تذرهم) * أي على الأرض كلا أو بعضا * (يضلوا عبادك) * عن طريق الحق ولعل المراد بهم من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان وبإضلالهم إياهم صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه إليه عليه السلام ويقول احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن هنا قال عليه السلام: * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك بما حصل له من التجربة ألف سنة إلا خمسين عاما ومثله قوله عليه السلام إن تذرهم يضلوا عبادك وقيل أراد من جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه: * (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم أرحام نسائهم وأيا ما كان فقوله: * (إنك) * الخ اعتذار مما عسى أن يقال من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام.
* (رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمن‍ات ولا تزد الظ‍المين إلا تبارا) * * (رب اغفر لي ولوالدي) * أراد أباه لمك بن متوشلخ وقد تقدم ضبط ذلك وأمه شمخى بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولولا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه الأقرب أو أراد جميع من ولدوه
(٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 ... » »»