تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٥ - الصفحة ٥٤
منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * (النحل: 58) ولو قدم المؤخر لاختل النظم، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل: * (أو يزوجهم) * أي الأولاد * (ذكرانا وإناثا) * أي يخلق ما يهبهم زوجا لأن التزويج جعل الشيء زوجا فذكرانا وأناثا حال من الضمير، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقا ووجودا فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معالا أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجا ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له، ثم قيل: * (ويجعل من يشاء عقيما) * أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر، وكأنه جيء بأو في * (أو يزوجهم) * دون الواو كما في سابقه من حيث أنه قسم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل، وقيل قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد، وفي الحديث " من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار " وقيل: قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه، وقيل: لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمهن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى، وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤما فيقولون له بكر بكرين؛ وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى، وقيل: قدمت وأخر الذكور معرفا للمحافظة على الفواصل، والمناسب للسياق ما علمت سابقا، وقال مجاهد في * (أو يزوجهم) * التزويج أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما: هو أن تلد توأما غلاما وجارية. وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام أناثا ولإبراهيم عليه السلام ذكورا ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين اه‍ * (إنه عليم قدير) * مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.
* (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم) *.
* (وما كان لبشر) * أي ما صح لفرد من أفراد البشر.
* (أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراءي حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام. الأول: الوحي وهو المراد بقوله تعالى: * (إلا وحيا) * وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاما وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روى عن مجاهد وليس بإلهام؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص: وأوحى إلى الله أن قد تأمروا * بابل أبي أوفى فقمت على رجلي فإنه أراد قذف في قلبي. والثاني: إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا
(٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 ... » »»