تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٤ - الصفحة ٩٢
بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن) *.
الخامس: أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي السادس: أن يجعل الضميران للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. ذلك مبلغهم من العلم) * فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا.
وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و * (فرحوا بما عندهم من العلم) * على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة.
* (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) *.
* (فلما رأوا بأسنا) * شدة عذابنا ومنه قوله تعالى: * (بعذاب بئيس) * (الأعراف: 165) * (قالوا ءامنا بالله وحده وكعفرنا بما كنا به مشركين) * يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة:
* (فلم يك ينفعهم إيم‍انهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الك‍افرون) *.
* (فلم يك ينفعهم إيم‍انهم لما رأوا بأسنا) * أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، و * (إيمانهم) * رفع بيك اسما لها أو فاعل * (ينفعهم) * وفي * (يك) * ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وههنا أربعة فاءات فاء * (فما أغنى) * وفاء * (فلما جاءتهم) * وفاء * (فلما رأوا) * وفاء * (فلم يك) * فالفاء الأولى: مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية: تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: * (وحاق بهم) * إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: * (فما أغنى عنهم) * إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالثة: للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه * (فلما رأوا بأسنا) * مترتب على قوله تعالى: * (فلما جاءتهم) * الخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن * (فلما جاءتهم) * الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة
(٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 ... » »»