تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٧ - الصفحة ٧٩
قبله، والغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه، ولما كان الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره قيل * (له) * للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه السلام. وقد كان عليه السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه * (ويعملون) * له * (عملا) * كثيرا * (دون ذلك) * أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى * (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) * الآية، قيل: إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم، وذكر ذلك الإمام الرازي في " التفسير "، لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافا. ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر. وقيل: من صناعة بقراط وجالينوس انتهى؛ وقيل هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك، وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم، ثم هؤلاء أما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة * (من) * كأنه قيل: ومن يعملون، والشياطين أجسام لطيفة نارية عاقلة، وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نطير قلع الهواء الأجسام الثقيلة، وقال الجبائي: إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام فلما توفي ردهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي أبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط عن درجة القبول كما لا يخفى.
والظاهر أن المسخرين كانوا كفارا لأن لفظ الشياطين أكثر إطلاقا عليهم، وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى: * (وكنا لهم حافظين) * أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا، وقال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار، وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحدا؛ والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم أنه وكل بهم جمعا من الملائكة عليهم السلام وجمعا من مؤمني الجن، هذا وفي قصتي داود وسليمان عليهما السلام ما يدل على عظم قدرة الله تعالى.
قال الإمام: وتسخير أكثف الأجسام لداود عليه السلام وهو الحجر إذ أنطقه الله تعالى بالتسبيح والحديد إذ ألانه سبحانه له وتسخير ألطف الأجسام لسليمان عليه السلام وهو الريح والشياطين وهم من نار وكانوا يغوصون في الماء فلا يضرهم دليل واضح على باهر قدرته سبحانه وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر الصادق بوقوعه وجب قبوله واعتقاده.
* (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين) *.
* (وأيوب) * الكرم فيه كما مر في قوله تعالى: * (وداود وسليمان) * * (إذ نادى ربه أني) * أي بأني * (مسي الضر) * وقرأ عيسى بن عمر بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين أي قائلا إني، ومذهب الكوفيين إجراء نادى مجرى قال، والضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما * (وأنت أرحم الراحمين) * أي وأنت أعظم رحمة من كل من يتصف بالرحمة في الجملة وإلا فلا راحم في الحقيقة سواه جل شأنه وعلاه، ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرحمة بعدما ذكر نفسه بما يوجبها مكتفيا بذلك عن عرض الطلب من استمطار سحائب الرحمة على ألطف وجهه.
ويحكى في التلطف في الطلب أن امرأة شكت إلى بعض ولد سعد بن عبادة قلة الفار في بيتها فقال: املؤا بيتها خبزا وسمنا ولحما، وهو عليه السلام على ما قال ابن جرير: ابن اموص بن رزاح بن عيص بن إسحق، وحكى ابن عساكر
(٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 ... » »»