تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ٦٣
بالصحة كما لا يخفى * (ولا تبذر تبذيرا) * نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. والحاكم وصححه. والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه قال: التذير إنفاق المال في غير حقه. وفي " مفردات الراغب " وغيره أن أصله القاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم. وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق، وفي " الكشف " بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته ههنا فتأمل.
* (إن المبذرين كانوا إخوان الشي‍اطين وكان الشيط‍ان لربه كفورا) * * (إن المبذرين كانوا اخوان الشي‍اطين) * تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين، والإخوان جمع أخ والمراد به المماثل مجازا أي أنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي أنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد.
* (وكان الشيطان لربه كفورا) * من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به.
وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذيهو صرفها إلى ما خلقت له، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى. ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك.
* (وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) * * (وإما تعرضن عنهم) * أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل عن السائلين مطلقا، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت * (وإما تعرضن عنهم) * * (ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * والخطاب عام له صلى الله عليه وسلم ولغيره، والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس. ومجاهد. والضحاك الرزق، ونصب * (ابتغاء) * على أنه مفعول له.
قال في " الكشف " قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»