تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ٢٧٦
بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل، وقيل * (هذه) * إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم، وأيا ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات، ولعله خوفه أيضا بالساعة فقال له:
* (ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا) * * (وما أظن الساعة قائمة) * أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة * (ولئن رددت إلى ربي) * بالبعث عند قيامها كما زعمت * (لأجدن) * حينئذ * (خيرا منها) * أي من هذه الجنة.
وقرأ ابن الزبير. وزيد بن علي. وأبو بحرية. وأبو جعفر. وشيبة. وابن محيصن. وحميد. وابن مناذر ونافع. وابن كثير. وابن عامر * (منهما) * بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين * (منقلبا) * أي مرجعا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية * (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) * (فصلت: 50) ولم يدر أن ذلك استدراج، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا * (رددت) * ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء * (رجعت) * (فصلت: 50) فليتأمل.
* (قال له ص‍احبه وهو يح‍اوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) * * (قال له صاحبه) * استئناف كما سبق * (وهو يحاوره) * جملة حالية كالسابقة، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة.
وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير * (وهو يخاصمه) * * (أكفرت بالذي خلقك من تراب) * أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله، وكون ذلك مبنيا على صحة قياس المساواة خيال واه، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر.
* (ثم من نطفة) * هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد، ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشرا إلا وملك موكل بها يلقى فيها قليلا من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى.
وتعقبه في " البحر " بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته، وأنا أقول: غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى * (ثم سواك رجلا) * عدلك وكملك إنسانا ذكرا؛ وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويا كما فيما * (تسوى بهم الأرض) * (النساء: 42) ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى: * (ونفس وما سواها) * (الشمس: 7) فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه
(٢٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 ... » »»