تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ٥٥
قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول فأين تذهبون؟ ويقال: خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال: النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك * (وأرسلنا) * على القلوب * (الرياح) * النفحات الإلهية * (لواقح) * بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء: رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكريم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقى من حرمها * (فأنزلنا من السماء) * أي سماء الروح * (ماء) * من العلوم الحقيقية * (فأسقيناكموه) * وأحييناكم به * (وما أنتم له) * أي لذلك الماء * (بخازنين) * (الحجر: 22) لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم * (وإنا لنحن نحيي) * القلوب بماء العلم والمشاهدة * (ونميت) * النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل: نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة؛ وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي: نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق: نحيي القلوب بنور الايمان ونميت النفوس باتباع الشيطان؛ وقيل وقيل: * (ونحن الوارثون) * (الحجر: 23) للوجود والباقون بعد الفناء * (ولقد علمنا المستقدمين منكم) * وهم المشتاقون الطالبون للتقدم * (ولقد علمنا المستأخرين) * (الحجر: 24) وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناء والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل: المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والاعراض، وقيل: الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعوا إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل: الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل: غير ذلك * (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون) * (الحجر: 28) فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماء بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد الإله، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * (الحجر: 29) أضاف سبحانه الروح إلى نسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لماأنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30) إلا إبليس لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه * (أبى أن يكون من الساجدين) * (الحجر: 31) ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا * (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) * غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل: لو قال تيها قف على جمر الغضى * لوقفت ممتثلا ولم أتوقف وقال بعض أهل الوحدة: إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ
(٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 ... » »»