ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على الله تعالى بل لأغراض أخر ويترتب على ذلك ما ذكر، وإلى هذا ذهب الزمخشري وجماعة، وقال بعضهم: يجوز أن تكون للتعليل ولا يبعد قصدهم لذلك كما قالوا: * (وجدنا عليها ءاباءنا والله أمرنا به) * (الأعراف: 28) وفي " البحر " أنه الظاهر ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد للتعليل السابق على احتمال كون اللام للتعليل وما مصدرية لأن في هذا التنبيه على من افتروا الكذب عليه وليس فيما مر بل فيه إثبات الكذب مطلقا ففي ذلك إشارة إلى أنهم لتمرنهم على الكذب احترئا على الكذب على الله تعالى فنسبوا ما حللوا وحرموا إليه سبحانه، وقال الواحدي: إن * (لتفتروا) * بدل من * (لما تصف) * الخ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، وهو على ما في البحر أيضا على تقدير كون ما مصدرية لأنها إذا جعلت موصولة لا تكون اللام للتعليل ليبدل من ذلك ما يفهم التعليل، وقيل: لا مانع من التعليل على تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالا ولا حراما فتكونوا كاذبين على الله تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمة سبحانه، ومن هنا قال أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يوم هذا.
وقال ابن العربي كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه، ويقال في مسائل الاجتهاد؛ إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على الله سبحانه * (إن الذين يفترون على الله الكذب) * في أمر من الأمور * (لا يفلحون) * لا يفوزون بمطلوب.
* (متاع قليل ولهم عذاب أليم) * .
* (متاع قليل) * أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب - فمتاع - خبر مبتدأ محذوف و * (قليل) * صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل: كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل: ذاك متاع قليل لا عبر به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به، وإلى كون * (متاع) * خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال: أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك. وقال الحوفي: * (متاع قليل) * مبتدأ وخبر، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد * (ولهم) * في الآخرة * (عذاب أليم) * لا يكتنه كنهه.
* (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * .
* (وعلى الذين هادوا) * خاصة دون غيرهم من الأولين * (حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وعلى الذي هادوا حرمنا كل ذي ظفر) * (الأنعام: 146) الآية، والظاهر أن * (من قبل) * متعلق - بقصصنا - وجوز تعليقه - بحرمنا - والمضاف إليه المقدر ما مر أيضا.
ويحتمل أن يقدر * (من قبل) * تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا * (وما ظلمناهم) * بذلك التحريم * (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * (النساء: 160) الآية، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وأنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة. q