ولا شك أنها تدخل للاستقبال، والثالث: أن قوله تعالى: * (أن نقول) * لا خلاف في أنه يبنىء عن الاستقبال. والرابع: أن قوله سبحانه: * (كن فيكون) * كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع، وما ذكر من دلالة * (إذا) * و * (نقول) * على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا؛ فقال بعضهم بالأول، وقال آخرون : ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي، وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطر في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي.
وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث، وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكيونها إعادة بعده، وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله تعالى.
وقرأ ابن عامر. والكسائي ههنا وفي يس * (فيكون) * بالنصب، وخرجه الزجاج على العطف على * (نقول) * أي فإن يكون أو على أن يكون جواب * (كن) *، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك: قلت لزيد اضرب تضرب.
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور، ثم قيل: والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى إن أقل لك اضرب تسرع إلى الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية، وقال بعضهم: إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن * (فيكون) * كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة، وفيه ما فيه.
* (والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * .
* (والذين هاجروا في الله) * أي في حقه - ففي - على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه - ففي - للتعليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن امرأة دخلت النار في هرة " والمهاجرة في الأصل مصارمة