تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ١٣٩
يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة. والذي ذكره القاضي في قوله تعالى: * (ولقد بعثنا) * الخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه.
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية، والمعنى إنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق، والفاء في * (فمنهم) * نصيحة كما أشار إليه، وكان الظاهر في القسم الثاني - ومنهم من أضل الله - إلا أنه غير الأسلوب إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى: * (وإذا مرضت فهو يشفين) * (الشعراء: 80) و * (أن) * يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله * (فسيروا) * أيها المشركون المكذبون القائلون: لو شاء الله ما عبدنا من دونه * (في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال.
* (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ن‍اصرين) * .
* (إن تحرص على هداهم) * خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي * (وإن) * بزيادة واو وهو، والحسن، وأبو حيوة * (تحرص) * بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، والجمهور * (تحرص) * بكسر الراء مضارح حرص بفتحها وهي لغة الحجاز * (فإن الله لا يهدي من يضل) * جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصولة قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلال وللإشعار بعلة الحكم. ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أولياء، ومعنى الآية على ما قيل: أنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، و * (من) * على هذا مفعول * (يهدي) * كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم و * (من) * فاعله وضمير الفاعل في * (يضل) * لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكى مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة. والحسن. والإعرج. ومجاهد. وابن سيرين. والعطاردي. ومزاحم الخراساني. وغيرهم * (لا يهدي) * بالبناء للمفعول - فمن - نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أخد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا - على ما قيل - إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا
(١٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 ... » »»