تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ١٣٧
ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى * (فهو على الرسل) * أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشكر والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: * (فهل على الرسل) * إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنا تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها [بم في قوله تعالى:
* (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الط‍اغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضل‍الة فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان ع‍اقبة المكذبين) * .
* (ولقد بعثنا في كل أمة) * من الأمم الخالية * (رسولا أن اعبدوا الله) * وحده * (واجتنبوا الطاغوت) * هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال الحسن: هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه. * (فمنهم) * أي من أولئك الأمم * (من هدى الله) * إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وقفهم لذلك * (ومنهم من حقت عليه الضلالة) * ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيما للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضا كذلك.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام. وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحص وما المراد به على جعل * (فهل على الرسل) * (النحل: 35) إلى آخره مشيرا إلى جواب الشبهة الأولى.
وقال الإمام: إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا فنقول. هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك.
والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه: * (ولقد بعثنا) * إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال، فثبت أن الله تعالى أنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب، ومعنى * (فهل على الرسل) * إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وإما أن الإيمان هل يحصل أولا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه‍ وهو كما ترى.
(١٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 ... » »»