تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٩٦
الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والثقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير، لا يقال: إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك؟ لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم، وهذا السؤال نظير أن يقال: إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة، وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم، ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال الخ.
ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجا وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء، فإن بين يئا قلنا بمثله فيما نحن فيه، ثم إنا نقول: ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى.
وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا: إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها. أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخاري حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل، ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة، وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه. أحدها: أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة، وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهره الأرضين، وثالثها: إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل، وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض
(٩٦)
مفاتيح البحث: الغفلة (1)، الشهادة (2)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»