تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٢٥٧
على أن التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ، وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس الملتبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران، ووجه الشبه تحلى كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته، ويستعار لفظ أحدهما للآخر، ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر، على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب ما يكون إلى كلام الصوفية، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون القطران المذكور عين ما لابسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب، عصمنا الله تعالى من ذلك بلطفه وكرمه. وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وأبو هريرة. وعكرمة. وقتادة. وجماعة من * (قرآن) * على أنهما كلمتان منونتان أولاهما * (قطر) * بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما * (آن) * بوزن عان بمعنى شديد الحرارة. قال الحسن: قد سعرت عليه جنهم منذ خلقت فتناهى حره * (وتغشى وجوههم النار) * أي تعلوها وتحيط بها النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران، ويتخصيص الوجوه بالحكم المذكورة مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى: * (أفمن يقتي بوجهه سواء العذاب يوم القيامة) * (الزمر: 24) ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره، وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أسرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤها بالجهالات أو لخلوها كما قيل: عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار، ووجه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤوس الأشهاد. وقرىء برفع الوجوه ونصب * (النار) * كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا. وقرىء * (تغشى) * أي تتغشى بحذف إحدى التاءين، والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة.
وفي الكشف وأفاد العلامة الطيبي أن مقرنين - سرابيلهم من قطران - تغشى - أحوال من مفعول * (ترى) * جيء بها كذلك للترقي؛ ولهذا جيء بالثانية جملة اسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد،، وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى: * (وترى) * لأن الثاني أهول؛ والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار، والأخيرين لبيان حالهم بعد دخولها، وكأن الأول حرك من السامع أن يقول: وإذا كان هذا شأنهم وهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون؟ فأجيب بقوله سبحانه: * (سرابيلهم من قطران) * وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا، وأكثر المعربين على عدم الانقطاع.
* (ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب) * .
* (ليجزي الله) * متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه * (كل نفس) * أي مجرمة بقرينة المقام * (ما كسبت) * من أنواع الكفر والمعاصي جزاءا وفاقا ، وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم، وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب، مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل:
(٢٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 » »»