عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ولم يكن ما سمعه مختصا بجهة من الجهات، وجمله على السماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه؛ والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة * (قال رب أرني) * أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم، ولم يصرح به تأدبا * (أنظر إليك) * مجزوم في جواب الدعاء، واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم:
نظرت إليه فرأيته، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التلقيب وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهو عكس القضية.
وأجيب بأن المراد بالاراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي فانظر إليك وأراك * (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك، فقيل: قال: * (لن تراني) * أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه، وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه * (ولكن انظر إلى الجبل) * إستدراك لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية، والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير * (فان استقر مكانه) * ولم يفتته التجلي * (فسوف تراني) * إذا تجليت لك * (فلما تجلى ربه للجبل) * أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك * (جعله دكا) * أي مدكوكا متفتتا، والدك والدق أخوان كالشك والشق. وقال سيخنا الكوراني: إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد الله بنص * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته، وقيل: هذا مثل لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى: * (أن يقول له كن فيكون) * من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا. وتعقبه صاحب الفوائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلي مطاوع جليته أي أظهرته يقال: جليته فتجلى أي أظهرته فظهر ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل، على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل. وأخرج أحمد. وعبد بن حميد. والترمذي والحاكم وصححاه. والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية * (فلما تجلى ربه) * الخ قال هكذا وأشار باصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر - وفي لفظ - على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل " وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله ترابا، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى. وقرأ حمزة. والكسائي * (دكاء) * بالمد أي أرضا مستوية، ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها. وقرأ يحيى بن وثاب * (دكا) * بضم الدال والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع، وفي شرح التسهيل لأبي حيات أنه أجرى مجرى الأسماء فاجرى على المذكر * (وخر موسى) * أي سقط من