خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه السلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه، وبهذا يعلم ما في دعوى أن الانكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الانصاف، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف، فإيثار ما في النظم الكريم - كما قيل - على أن يقال: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاء إلى الجواب (الحق) بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربا تدعو إلى اللجاج والعناد مع الإشارة بمافي النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه السلام بل تشمل كل موحد ترغيبا لهم في التوحيد.
* (إن كنتم تعلمون) * أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم من أولي العلم فأخبروني بذلك. وقرىء * (سلطانا) * بضم اللام، وهي لغة اتبع فيها الضم الضم.
* (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الامن وهم مهتدون) *.
* (الذين ءامنوا) * استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه. وروي ذلك عن محمد بن إسحاق وابن زيد والجبائي، ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه السلام وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستشكل كونه استئنافا بأنه لا يمكن جعله بيانيا لأنه ما كان جواب سؤال مقدر، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحويا لما قال ابن هشام: إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعا عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما. وأجيب باختيار كونه نحويا، ومعنى كونه منقطعا عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر، وقيل: المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقا أو تقديرا أي الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به.
* (ولم يلبسوا) * أي لم يخلطوا * (إيمانهم) * ذلك * (بظلم) * أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وأن عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما ينبىء عنه قوله: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن المسيب وقتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين.
ويدل عليه ما أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه السلام لابنه * (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) ولا يقال: إنه لا يلزم من قوله: * (إن الشرك) * الخ أن غير الشرك لا يكون ظلما لأنهم قالوا: إن التنوين في * (بظلم) * للتعظيم فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم، ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده.
وقيل: المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور المعتزلة. واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي