تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ٨٦
واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: * (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) * (المائدة: 24).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله. وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام، وكان مجلسها جريبا من الأرض، فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى.
وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي " فتاوى العلامة ابن حجر " قال الحافظ العماد بن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه - كحديث عوج الطويل - وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى. وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا عجيبا، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومشى صاحب " القاموس " على أن أخباره موضوعة، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب " العظمة " فيه آثارا قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله: إنه باطل كذب، وقال الحافظ السيوطي: والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قتله بعصاه، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى، ونعم ما قال، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * (الصافات: 77) مما لا يسوغه العارف، وشيه الحوت بعين الشمس، مما لا يكاد يعقل - على ما ذكره الحكماء - فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل
(٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 ... » »»