تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ١٨٨
أقاموا التوراة) * بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات * (والإنجيل) * بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات * (وما أنزل إليهم من ربهم) * من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء * (لأكلوا من فوقهم) * أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية * (ومن تحت أرجلهم) * أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول: يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني: يهتدون إلى معرفة عالم الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في * (لأكلوا) * الخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق من عدد سيآتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص * (من) * الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم " لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى. وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: * (من تحت أرجلهم) * الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: * (من فوقهم) * الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين. ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر، فتدبر * (منهم أمة مقتصدة) *، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات * (وكثير منهم ساء ما يعملون) * (المائدة: 66) وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل..
* (ي‍اأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الك‍افرين) *.
* (يا أيها الرسول) * إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ ما أوحي إليه. * (بلغ) * أي أوصل الخلق * (ما أنزل إليك) * أي " جميع ما أنزل كائنا ما كان * (من ربك) * أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا وإن لم تفعل أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.
(١٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 ... » »»