تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ١١٦
برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتا. والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب والمستكن في - يريه - لله تعالى أو للغراب، واللام على الأول متعلقة - ببعث حتما، وعلى الثاني - بيبحث - ويجوز تعلقها ببعث أيضا، و * (كيف) * حال من الضمير في * (يواري) * قدم عليه لأن له الصدر، وجملة * (كيف يواري) * في محل نصب مفعول ثان - ليرى - البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن - يريه - بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة * (كيف يواري) * موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له وفيه نظر، و - البحث - في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد - بالسوأة - جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير * (أخيه) * عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه:
* (قال يا ويلتا) * كلمة جزع وتحسر، والويلة - كالويل - الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشد منه، والألف بدل من ياء المتكلم أي - يا ويلتى -، وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك * (أعجزت أن أكون مثل ه‍اذا الغراب) * تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع كونه أشرف منه * (فأواري سوءة أخي) * عطف على * (أكون) * وجعله في " الكشاف " منصوبا في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان: * (إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك، فإن تقديره إن تزرني أكرمك، ولو قيل ههنا: إن - أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارى سوأة أخي - لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه) *، وأجاب في " الكشف " بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال: فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة فلا قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببا، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل: في توجيه ذلك أن الاستفهام للإنكار - وهو بمعنى النفي - وهو سبب، والمعنى إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه
(١١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 ... » »»