تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٨٦
أنا والله وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا رب العالمين وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني الرحمن الرحيم وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين. ومن الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر (...) قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته ووصفه بكونه ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة، وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به فدل ذلك على ثبوت الحمدلة قبل الشرع وبعده وهو على ما فيه دليل عليه لا له لأنه بيان من الله تعالى لايجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة، هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي فالتجلي باسمه تعالى الله للجوهر الملكي: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وباسم الرب للنفس الشيطانية * (رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) وباسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * (الفرقان: 26) وباسم الرحيم للنفس البهيمية * (أحل لكم الطيبات) * (المائدة: 5) وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف * (سنفرغ لكم أيها الثقلان) * (الرحمن: 31).
وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة والسبعية بطلب الهداية والبهيمية بطلب الاستقامة، وتواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة وأيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي الله والصلاة من أنوار تجلي الرب وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم والحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد ولما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * إيا في المشهور ضمير نصب منفصل واللواحق حروف زيدت لبيان الحال، وقيل أسماء أضيف هو إليها، وقيل الضمير هي تلك اللواحق وإيا دعامة، وقيل الضمير هو المجموع وقيل إيا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق وزعم أبو عبيدة اشتقاقه وهو جهل عجيب والبحث مستوفى في علم النحو، وقد جاء وياك بقلب الهمزة واوا ولا أدري أهو عن القراء أم عن العرب وقرأ عمرو بن فائد عن أبي (إياك) بكسر الهمزة وتخفيف الياء وعلى وأبو الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الهمزة والتشديد وأبو السوار الغنوي (هياك) بإبدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء والجمهور (إياك) بالكسر والتشديد، والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعا ولا عقلا فعلها إلا لله تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة والوجود وتوابعهما ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء وهو التراب وموطىء الأقدام والنعال غاية الخضوع وقيل لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه وما ورد من نحو قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * (الأنبياء: 98) وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم وتستعمل بمعنى الطاعة ومنه: * (أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) وبمعنى الدعاء ومنه: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) * (غافر: 60) وبمعنى التوحيد ومنه: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وكلها متقاربة المعنى وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات لأنه إما أن يعبد الله تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أدوم وأشرف وهذه مرتبة نازلة عند أهل الله تعالى وتسمى عبادة وإما أن يعبد الله تعالى تشرفا بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالانتساب إليه وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية وإما أن يعبد الله تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا يتقضيه إلا الخضوع والذلة وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودة وإليه الإشارة بقول المصلي أصلي لله تعالى فإنه
(٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 ... » »»