تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٥٩
المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم: * (إنما نحن مستهزءون) * إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم، ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام كهم مستهزءون بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف ولو بحسب التوهم على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن الله مستهزىء بهم المطابق لقولهم إلى قوله: * (الله يستهزىء بهم) * لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ من الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل: خلقت ألوفا ولو رجعت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * (التوبة: 126) * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) * (التوبة: 64) * (قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون) * (التوبة: 64) وهذا نوع من العذاب الأدنى * (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * (الزمر: 26) وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكى عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا.
* (ويمدهم في طغينهم يعمهون) * معطوف على قوله سبحانه وتعالى: * (يستهزىء بهم) * كالبيان له على رأي، والمد من مد الجيش وأمده بمعنى أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشر وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21)، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما: ما ذكرنا، وثانيهما: الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول: أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة * (يمدهم) * بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني، والثاني: أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع، فمعنى * (يمدهم في طغيانهم) * يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد عند من يعول عليه من أهل اللغة - كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا، وفي " الصحاح " مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له،
(١٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 ... » »»