تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٠٥
يداه ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا) *.
* (مرصادا) *: مفعال من الرصيد، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب. وقال مقاتل: مجلسا للأعداء وممرا للأولياء، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب، أي ذات رصد، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم. وقال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد فيه العدو. وقال الحسن: إلا أن على النار المرصاد. فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجئ بجواز احتبس. وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر: أن جهنم، يفتح الهمزة؛ والجمهور: بكسرها * (مئابا) *: مرجعا. وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح: لبثين، بغير ألف بعد اللام؛ والجمهور: بألف بعدها، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل، وفعل على من شأنه ذلك، كحاذر وحذر. * (أحقابا) *: تقدم الكلام عليه في الكهف عند: * (أو أمضى حقبا) *، والمعنى هنا: حقبا بعد حقب، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة، كقول أبي تمام:
* لقد أخذت من دار ماوية الحقب * أنحل المغاني لليلى أم هي نهب * ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصادا، ويجوز أن يتعلق بمآبا. ولبثين حال من الطاغين، وأحقابا نصب على الظرف. وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب، وجمعة أحقاب، فينتصب حالا عنهم، يعني لبثين فيها حقبين جحدين. وقوله: * (يذوقون فيها بردا ولا شرابا) * تفسير له، والاستثناء منقطع، يعني: لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حر النار، ولا شراب يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها * (حميما وغساقا) *. انتهى. وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه: ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يبد لوم بعد الأحقاب غير الحميم، والغاق من جنس آخر من العذاب. انتهى. وهذا الذي قاله هو قول للمتقدمين، حكاه ابن عطية. قال: وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا، فهذه الحال يلبثون أحقابا، ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم. والذي يظهر أن قوله: * (لا يذوقون) * كلام مستأنف وليس في موضع الحال، و * (إلا حميما) * استثناء متصل من قوله: * (ولا شرابا) *، وإن * (أحقابا) * منصوب على الظرف حملا على المشهور من لغة العرب، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة. وقول من قال: إن الموصوفين باللبث أحقابا هم عصاة المؤمنين، أواخر الآي يدفعه؛ وقول مقاتل: إن ذلك منسوخ بقوله: * (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) *، فاسد. والظاهر، وهو قول الجمهور، أن البرد هو مس الهواء القر، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر. وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي: البرد هنا النوم، والعرب تسمية بذلك لأنه يبرد سورة العطش، ومن كلامهم: منع البرد البرد، وقال الشاعر:
* فلو شئت حرمت النساء سواكم * وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا * النقاخ: الماء، والبرد: النوم. وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل، والذوق على هذين القولين مجاز. وقال ابن عباس: البرد: الشراب البارد المستلذ، ومنه قول حسان بن ثابت:
* يسقون من ورد البريض عليهم * بردا يصفق بالرحيق السلسل *
(٤٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 400 401 402 403 404 405 406 407 408 409 410 ... » »»