تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٤٦
مقامه؛ أو سمى المدينة، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان. وقال ابن عطية: والمعنى تبوؤا الدار مع الإيمان معا، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله: * (خلت من قبلهم) * فتأمله. انتهى. ومعنى * (من قبلهم) *: من قبل هجرتهم، * (حاجة) *: أي حسدا، * (مما أوتوا) *: أي مما أعطي المهاجرون، ونعم الحاجة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم) في إعطاء المهاجرين من أموال بني النضير والقرى.
* (ويؤثرون على أنفسهم) *: من ذلك قصة الأنصاري مع ضيف الرسول صلى الله عليه وسلم)، حيث لم يكن لهم إلا ما يأكل الصبية، فأوهمهم أنه يأكل حتى أكل الضيف، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (عجب الله من فعلكما البارحة)، فالآية مشيرة إلى ذلك. وروي غير ذلك في إيثارهم. والخصاصة: الفاقة، مأخوذة من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج: والفتوح، فكأن حال الفقير هي كذلك، يتخللها النقص والاحتياج. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: شح بكسر الشين. والجمهور: بإسكان الواو وتخفيف القاف وضم الشين، والشح: اللؤم، وهو كزازة النفس على ما عندها، والحرص على المنع. قال الشاعر:
* يمارس نفسا بين جنبيه كرة * إذا هم بالمعروف قالت له مهلا * وأضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها. وقال تعالى: * (وأحضرت الأنفس الشح) *، وفي الحديث: (من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح). * (والذين جاءوا من بعدهم) *: الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين. فقال الفراء: هم الفرقة الثالثة من الصحابة، وهو من آمن أو كفر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الجمهور: أراد من يجيء من التابعين، فعلى القول الأول: يكون معنى * (من بعدهم) *: أي من بعد المهاجرين والأنصار السابقين بالإيمان، وهؤلاء تأخر إيمانهم، أو سبق إيمانه وتأخرت وفاته حتى انقرض معظم المهاجرين والأنصار. وعلى القول الثاني: يكون معنى * (من بعدهم) *: أي من بعد ممات المهاجرين، مهاجريهم وأنصارهم. وإذا كان * (والذين) * معطوفا على المجرور قبله، فالظاهر أنهم مشاركو من تقدم في حكم الفيء.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر * (وإنما * الصدقات للفقراء) * الآية، فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: * (واعلموا أنما غنمتم) *، فقال: وهذه لهؤلاء، ثم قرأ: * (ما أفاء الله على رسوله) * حتى بلغ * (للفقراء المهاجرين) * إلى * (والذين جاءوا من بعدهم) *. ثم قال: لئن عشت لنؤتين الراعي، وهو يسير نصيبه منها.
وعنه أيضا: أنه استشار المهاجرين والأنصار فيما فتح الله عليه من ذلك في كلام كثير آخره أنه تلا: * (ما أفاء الله على رسوله) * الآية، فلما بلغ * (أولئك هم الصادقون) * قال: هي لهؤلاء فقط، وتلا: * (والذين جاءوا من بعدهم) * الآية، إلى قوله: * (رءوف رحيم) *؛ ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) خيبر. وقيل: * (والذين جاءوا من بعدهم) * مقطوع مما قبله، معطوف عطف الجمل، لا عطف المفردات؛ فإعرابه: * (والذين) * مبتدأ، ندبوا بالدعاء للأولين، والثناء عليهم، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، والخبر * (يقولون) *، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم * (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا) *، وعلى القول الأول يكون * (يقولون) * استئناف إخبار، قيل: أو حال.
* (ألم تر إلى الذين نافقوا) * الآية: نزلت في عبد الله بن أبي، ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار، كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله: * (يقولون) *، واللام في * (لإخوانهم) * للتبليغ، والإخوة بينهم إخوة الكفر وموالاتهم، * (ولا
(٢٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 241 242 243 244 245 246 247 248 249 250 251 ... » »»