تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٢٠
(سقط: الله وغركم بالله الغرور، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ومأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير) العامل في يوم ما عمل في لهم؛ التقدير: ومستقر له أجر كريم يوم ترى، أو اذكر يوم ترى إعظاما لذلك اليوم. والرؤية هنا رؤية عين، والنور حقيقة، وهو قول الجمهور، وروي في ذلك عن ابن عباس وغيره آثار، وأن كل مظهر من الإيمان له نور، فيطفىء نور المنافق، ويبقى نور المؤمن، وهم متفاوتون في النور. منهم من يضيء، كما بين مكة وصنعاء، ومن نوره كالنخلة السحوق، ومن يضيء له ما قرب قدميه. ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة، وذلك على قدر الأعمال. وقال الضحاك: النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم، ويكون أيضا بأيمانهم، فيظهر أنهما نوران: نور ساع بين أيديهم، ونور بأيمانهم؛ فذلك يضيء الجهة التي يؤمونها، وهذا يضيء ما حواليهم من الجهات. وقال الجمهور: النور أصله بأيمانهم، والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك النور. وقيل: الباء بمعنى عن، أي عن أيمانهم، والمعنى: في جميع جهاتهم. وعبر عن ذلك بالأيمان تشريفا لها. وقال الزمخشري: وإنما قال * (بين أيديهم وبأيمانهم) *، لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. وقرأ الجمهور: * (وبأيمانهم) *، جمع يمين؛ وسهل بن شعيب السهمي، وأبو حيوة: بكسر الهمزة، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف، أي كائنا بين أيديهم، وكائنا بسبب أيمانهم.
* (بشراكم اليوم جنات) *: جملة معمولة لقول محذوف، أي تقول لهم الملائكة: الذين يتلقونهم جنات، أي دخول جنات. قال ابن عطية: * (خالدين فيها) *، إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم). انتهى. ولا مخاطبة هنا، بل هذا من باب الالتفات من ضمير الخطاب في * (بشراكم) * إلى ضمير الغيبة في * (خالدين) *. ولو جرى على الخطاب، لكان التركيب خالدا أنتم فيها، والالتفات من فنون البيان * (يوم يقول) * بدل من * (يوم ترى) *. وقيل: معمول لأذكر. قال ابن عطية: ويظهر لي أن العامل فيه * (ذالك هو الفوز العظيم) *، ومجئ معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى. فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز، وهو لا يجوز، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته، فلا يجوز إعماله. فلو أعمل وصفة، وهو العظيم، لجاز، أي الفوز الذي عظم، أي قدره * (يوم يقول) *.
* (انظرونا) *: أي انتظرونا، لأنهم لما سبقوكم إلى المرور على الصراط، وقد طفئت أنوارهم، قالوا ذلك. قال الزمخشري: * (انظرونا) *: انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تذف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا، لأنهم إذا انظروا إليهم استقبلوهم بوجوهم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. انتهى. فجعل انظرونا بمعنى انظروا إلينا، ولا يتعدى النظر هذا في لسان العرب إلا بإلى لا بنفسه، وإنما وجد متعديا بنفسه في الشعر. وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة: أنظرونا من أنظر رباعيا، أي أخرونا، أي اجعلونا في آخركم، ولا تسبقونا بحيث تفوتوننا، ولا نلحق بكم. * (نقتبس من نوركم) *: أي نصب منه حتى نستضيء به. ويقال: اقتبس الرجل واستقبس: أخذ من نار غيره قبسا. * (قيل ارجعوا وراءكم) *: القائل المؤمنون، أو الملائكة. والظاهر أن * (وراءكم) * معمول لا رجعوا. وقيل: لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا، كقولهم: وراءك أوسع لك، أي ارجع تجد مكانا أوسع لك. وارجعوا أمر توبيخ وطرد، أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا الفوز فالتمسوه هناك، أو ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا، أي بتحصيل سببه وهو الإيمان، أو تنحوا عنا، * (فالتمسوا نورا) * غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه. وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو إقناط لهم.
* (فضرب بينهم) *: أي بين المؤمنين والمنافقين، * (بسور) *: بحاجز. قال ابن زيد: هو الأعراف
(٢٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 215 216 217 218 219 220 221 222 223 224 225 ... » »»