تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢١١
على الشيء: أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، والمعنى: * (وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم) *: أي نحن قادرون على ذلك، لا تغلبوننا عليه، إن أردنا ذلك. وقال الطبري: المعنى نحن قادرون، * (قدرنا بينكم الموت) *، * (على أن نبدل أمثالكم) *: أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة، هكذا قرنا بعد قرن. انتهى. فعلى أن نبدل متعلق بقوله: * (نحن قدرنا) *، وعلى القول الأول متعلق * (بمسبوقين) *، أي لا نسبق. * (على أن نبدل أمثالكم) *، وأمثالكم جمع مثل، * (وننشئكم * فيما * لا تعلمون) * من الصفات: أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم. وقال الحسن: من كونكم قردة وخنازير، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد. ويجوز أن يكون * (أمثالكم) * جمع مثل بمعنى الصفة، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا وخلقا، * (وننشئكم) * في صفات لا تعلمونها.
* (ولقد علمتم النشأة الاولى) *: أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم، أولا أنشأنا إنسانا. وقيل: نشأة آدم، وأنه خلق من طين، ولا ينكرها أحد من ولده. * (فلولا تذكرون) *: حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة. وقرأ الجمهور: تذكرون بشد الذال؛ وطلحة يخفها وضم الكاف، قالوا: وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه. انتهى، ولا تدل إلا على قياس الأولى، لا على جميع أنواع القياس. * (أفرءيتم ما تحرثون) *: ما تذرونه في الأرض وتبذرونه، * (تزرعونه أم) *: أي زرعا يتم وينبت حتى ينتفع به، والحطام: اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به. * (فظلتم تفكهون) *، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تعجبون. وقال عكرمة: تلاومون. وقال الحسن: تندمون. وقال ابن زيد: تنفجعون، وهذا كله تفسير باللازم. ومعنى تفكهون: تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل فكه: منبسط النفس غير مكترث بشيء، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب. وقرأ الجمهور: * (فظلتم) *، بفتح الظاء ولام واحدة؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه: بكسرها. كما قالوا: مست بفتح الميم وكسرها، وحكاها الثوري عن ابن مسعود، وجاءت عن الأعمش. وقرأ عبد الله والجحدري: فظللتم على الأصل، بكسر اللام. وقرأ الجحدري أيضا: بفتحها، والمشهور ظللت بالكسر. وقرأ الجمهور: * (تفكهون) *؛ وأبو حرام: بالنون بدل الهاء. قال ابن خالويه: تفكه: تعجب، وتفكن: تندم. * (إنا لمغرمون) *، قبله محذوف: أي يقولون. وقرأ الجمهور: إنا؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر: أئنا بهمزتين، * (لمغرمون) *: أي معذبون من الغرام، وهو أشد العذاب، قال:
* إن يعذب يكن غراما وإن * يعط جزيلا فإنه لا يبالي * أو لمحملون الغرم في النفقة، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته. * (بل نحن محرومون) *: محدودون، لاحظ لنا في الخير. * (الماء الذى تشربون) *: هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب. ألا ترى مقابله، وهو الأجاج؟ ودخلت اللام في * (لجعلناه حطاما) *، وسقطت في قوله: * (جعلناه أجاجا) *، وكلاهما فصيح. وطول الزمخشري في مسوغ ذلك، وملخصه: أن الحرف إذا كان في مكان، وعرف واشتهر في ذلك المكان، جاز حذفه لشهرة أمره. فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع. وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول، وليس كما ذكر، إنما هذا قول ضعفاء المعربين. والذي ذكره سيبويه: أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول. ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم: لو كان إنسانا لكان حيوانا، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية. ثم قال: ويجوز أن يقال: إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب. والظاهر أن * (شجرتها) *، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار. وقيل: المراد بالشجرة نفس النار، كأنه يقول: نوعها أو جنسها،
(٢١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 216 ... » »»