تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢١٠
وعكرمة والضحاك: جمع أهيم، وهو الجمل الذي أصابه الهيام، وقد فسرناه في المفردات. وقيل: جمع هيماء. وقيل: جمع هائم وهائمة، وجمع فاعل على فعل شاذ، كباذل وبذل، وعائد وعوذ؛ والهائم أيضا من الهيام. ألا ترى أن الجمل إذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب؟ وقال ابن عباس وسفيان: الهيم: الرمال التي لا تروى من الماء، وتقدم الخلاف في مفرده، أهو الهيام بفتح الهاء، أم بالضم؟ والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل، فإذا ملأوا منه البطون، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم، فيشربونه شرب الهيم، قاله الزمخشري.
وقال أيضا: فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان، فكان عطفا للشيء على نفسه؟ قلت: ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك، كما تشرب الهيم الماء، أمر عجيب أيضا؛ فكانتا صفتين مختلفتين. انتهى. والفاء تقتضي التعقيب في الشربين، وأنهم أولا لما عطشوا شربوا من الحميم ظنا أنه يسكن عطشهم، فازداد العطش بحرارة الحميم، فشربوا بعده شربا لا يقع به ري أبدا، وهو مثل شرب الهيم، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد، اختلفت صفتاه فعطف، والمقصود الصفة. والمشروب منه في * (فشاربون شرب الهيم) * محذوف لفهم المعنى تقديره: فشاربون منه شرب الهيم. وقرأ الجمهور: * (نزلهم) * بضم الزاي. وقرأ ابن محيصن وخارجة، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس، كلهم عن أبي عمرو: بالسكون، وهو أول ما يأكله الضيف، وفيه تهكم بالكفار، وقال الشاعر:
* وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا * جعلنا القنا والمرهفات له نزلا * * (يوم الدين) *: أي يوم الجزاء. * (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) * بالإعادة وتقرون بها، كما أقررتم بالنشأة الأولى، وهي خلقهم. ثم قال: * (فلولا تصدقون) * بالإعادة وتقررن بها كما أقررتم، فهو حض على التصديق. * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) *، أو: * (فلولا تصدقون * به) *، ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق، وكان كافرا، قال: ولم أصدق؟ فقيل له: أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به؟ فقال: * (أفرءيتم ما تمنون) *، وهو المني الذي يخرج من الإنسان، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة. وقال الزمخشري: * (* يخلقونه) *: تقدرونه وتصورونه. انتهى، فحمل الخلق على التقدير والتصوير، لا على الإنشاء. ويجوز في * (يخشى أءنتم) * أن يكون مبتدأ، وخبره * (تخلقونه) *، والأولى أن يكون فاعلا بفعل محذوف، كأنه قال: أتخلقونه؟ فلما حذف الفعل، انفصل الضمير وجاء * (أفرءيتم) * هنا مصرحا بمفعولها الأول. ومجئ جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها، إذا كانت بمعنى أخبرني. وجاء بعد أم جملة فقيل: أم منقطعة، وليست المعادلة للهمزة، وذلك في أربعة مواضع هنا، ليكون ذلك على استفهامين، فجواب الأول لا، وجواب الثاني نعم، فتقدر أم على هذا، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم. وقال قوم من النحاة: أم هنا معادلة للهمزة، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد، إذ لو قال: أم نحن، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر. ونظير ذلك جواب من قال: من في الدار؟ زيد في الدار، أو زيد فيها، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به. وقرأ الجمهور: * (ما تمنون) * بضم التاء؛ وابن عباس وأبو السمال: بفتحها. والجمهور: * (قدرنآ) *، بشد الدال؛ وابن كثير: يخفها، أي قضينا وأثبتنا، أو رتبنا في التقدم والتأخر، فليس موت العالم دفعة واحدة، بل بترتيب لا يتعدى.
ويقال: سبقته
(٢١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 215 ... » »»