تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٥٠٣
ذكر وأنثى) *، * (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) *. انتهى. وقيل: بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر، لتنقله من الغم إلى الفرح. وقيل: ليعلم أنه لا اعتراض على الله فيرضى. فإذا وهب له الذكر، علم أنه زيادة وفضل من الله وإحسان إليه. وقيل: قدمها تنبيها على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم، كانت عناية الله أكثر. وقال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما، ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنيفة: أن تلد توأما، غلاما وجارية. وقال أبو بكر بن العربي: أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال علماؤنا: يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين، ذكرا وأنثى؛ تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر. انتهى.
ولما ذكر الهبة في الإناث، والهبة في الذكور، اكتفى عن ذكرها في قوله: * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *. ولما كان العقم ليس بمحمود قال: * (ويجعل من يشاء عقيما) *، وهو قسيم لمن يولد له. ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده، لم يذكره تعالى. قالوا: وكانت الخلقة مستمرة، ذكرا وأنثى، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم. فلما جن عليه الليل، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار، وأنكرت خادمه حاله فسألته، فقال: بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه، فقالت له: ما هو؟ فقال: شخص له ذكر وفرج، كيف يكون حاله في الميراث؟ قالت له الأمة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم، فرضوا بها. وجاء الإسلام على ذلك، وقضى بذلك علي، كرم الله وجهه، إنه عليم بمصالح العباد، قدير على تكوين ما يشاء.
كان من الكفار خوض في معنى تكليم الله موسى، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم، فنزلت. وقيل: كانت قريش تقول: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا، كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم الرسول عليه السلام: (لم ينظر موسى إلى الله)، فنزلت: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) *، بيانا لصورة تكليم الله عباده أي ما ينبغي ولا يمكن لبشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام. قال مجاهد: أو النفث في القلب. وقال النقاش: أو وحي في المنام. وقال النخعي: كان في الأنبياء من يخط له في الأرض، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا، كموسى عليه السلام، وهذا معنى * (من وراء حجاب) *: أي من خفاء عن المتكلم، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه، وليس كالحجاب في المشاهد، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه:
إما على طريق الوحي، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد: أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره، قال عبيد بن الأبرص:
* وأوحى إلى الله أن قد تأمروا * بابن أبي أوفى فقمت على رجل * أي: ألهمني وقذف في قلبي.
وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه، لأنه في ذاته غير مرئي. وقوله: * (من وراء حجاب) * مثل، أي: كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه، وهو من وراء حجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم الله موسى ويكلم الملائكة.
وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه، كما كلم الأنبياء غير موسى. انتهى، وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية الله تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن الله.
وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي، وخص الأول باسم الوحي هنا، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى. وقيل: * (وحيا) * كما أوحى إلى الرسل بواسطة
(٥٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 495 496 497 498 499 500 501 502 503 504 505 » »»